تساؤلات بروكسيل: هل توجد فعلا مشكلة لاجئين في أوربا؟

سبت, 2015-09-26 19:54

“عليهم أن يتذكّروا أنهم باستمرار في حالة فرار، وأن فرارهم يعبّر في الواقع عن حقيقة العالم .” حنه أرندت

 

ـ1ـ

بروكسل عاصمه الاتحاد الاوروبي… هكذا تُلقّب أوهكذا تحبّ أن تلقّب، ربما تعويضا عن تواضع حجمها مقارنةً مثلا بباريس ولندن او حتى بفرانكفورت وبرلين. إحدى الموظفات البولنديات في الإتحاد تقول وهي جالسة بجنبي : نحن نحترم عاداتهم في بلدانهم ونضع خمارا على الشعر حين نزورهم بينما هم لا يلتزمون بعاداتنا في بلداننا. أحد المتحدثين يعترض على أطروحاتها بدبلوماسية. آخر يستشهد بتقرير الإتحاد الأوروبي الذي صدر للتو حول اللاجئين السوريين. فهو تقرير يركز على الدول المجاورة لسوريا ( العراق وتركيا ولبنان والأردن ومصر) كدول متواضعة الامكانيات وتعاني فعليا مشكلة لاجئين عددهم بالملايين. أما أوروبا ذات الإمكانيات الهائلة فلا يصل عدد اللاجئين في مجموع دول اتحادها الثماني والعشرين إلى مليون. الإعلام الدولي والخطاب السياسي للحكومات الأوروبية يعطيان الانطباع الغريب بأن توزيع بضعة آلاف بين هذه البلدان يشكل قضية مصيرية بالنسبة لدول الاتحاد. ساحات المدينة ـ أو بعضها المكتظ بذوي الأصول غير الأوربية ـ تقوي هذا الشعور خصوصا لدى القادمين من أوربا الشمالية

ـ2ـ

الحياة الدبلوماسية تشكل طبعا جزءا كبيرا من نشاطات هذه المدينة التي يقيم فيها آلاف الدبلوماسيين دون أن يتجاوز عدد سكانها المليون والمائتي ألف. بروكسل هي ثاني عاصمة للدبلوماسية في العالم بعد نيويورك (120 مؤسسة دولية). وهي أيضا تنافس نيويورك كثاني عاصمة لمكاتب المحاماة. أغلبها مكاتب دولية أو فروع لمكاتب دولية مهتمة بملفات ّاللوبينغ” والجهات الرتبطة به في أروقة مؤسسات الاتحاد (المفوضية والبرلمان إلخ)

بعض مكاتب المحاماة المجاورة لي قد تكون أحد أكبر الرابحين ممّا عُرف بأزمة اللاجئين. إلى ساعات متأخرة من الليل يستمرّ عملُ بعض المحامين. الحديث عن اللاجئين يطغى في فضاءاتها تماما كما احتكر جزءًا من أروقة مؤسسات الإتحاد وهيمن على أحاديث المقاهي المحيطة بها. . ما يقوله الناس هنا يتأرجح بين مقاربتين متناقضتين. إحداهما انعكاس للضجة الإعلامية الحالية ومبالغاتها بخصوص ما تعنيه أزمة اللاجئين من تهديد وهمي لأوربا.  والثانية تصدر بنسبة أو أخرى عن مناخ المعطيات الميدانية التي تتحدث عنها تقارير الإتحاد واحصائياته.

ـ3ـ

الإعلام الدولي يروِّج لصورة لافتة تبدو من خلالها أوروبا المنطقة الوحيدة في العالم التي تواجه مشكلة اللاجئين. بل ويكرِّر أن أوروبا تواجه مشكلة لاجئين غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. الصورة الانطباعبة إذًا هي أن أوربا محاصرة.  أما التقرير الأوروبي الصادر للتو عن مفوضية الاتحاد والتقارير المماثلة فتكشف عن العكس تماما : الدول التي تواجه تحديات اقتصادية وديمغرافية كبيرة بسبب اللاجئين والنازحين هي دول أفريقية وآسيوية. أما أوروبا فلا تواجه رغم إمكانيتها الكبيرة مقارنة بهاتين القارتين إلا العدد الأكثر تواضعا من منظورين : من منظور عدد اللاجئين في العالم ومن منظور نسبتهم في فضاء الإتحاد الأوروبي الذي يناهز سكانه النصف مليار. وهم سكان يتمتعون بالإمكانيات والثروات الأكبر في العالم ( مثلا مجموع طالبي اللجوء في ألمانيا لا يصل عددهم نسبة ١٪ من عدد سكان هذا البلد).

ـ4ـ

تسمح لنا هذه الإشارة إلى قضية اللاجئين في الحرب العالمية الثانية أن نتذكر أن أغلب النصوص الدولية المرتبطة باللجوء والهجرة هي نصوص صيغت غداة هذه الحرب حتى ” لا يتكرر ماعرفتْه “. بينما السياسات المتبعة راهنيا في منح التأشيرات خصوصا تلك التي تتبعُها دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وبعض الدول العربية الثرية تُمثِّل يوميا خرقا صريحا وصارخا لهذه النصوص.

هل توجد فعلا مشكلة لاجئين في أوروبا ؟ بالرغم من الخطاب السائد فإن المعطيات الإحصائية تقول العكس. بل إن أوروبا لا تمثل وجهةَ ؤئيسة للهجرة عكسا للاعتقاد السائد، على الأقل إذا قارنّاها بمناطق كثيرة أخرى في العالم. يعني ذلك أن قضية اللاجئين في أوروبا لا تمْكن قراءتها بمعطياتها الميدانية وإنما بمنظور الصراع السياسي والأيديولوجي القائم حاليا في أوروبا. بهذا المعنى فإن مشكلة اللاجئين ليست مشكلة لاجئين وإنما مشكلة سياق يمثلون هم مرحليا إحدى أوراق لعبته.

 

د. محمد بدي ابنو

مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

   [email protected]