الإعلام الثقافي

أربعاء, 2014-07-16 02:09

لا يمكن أن يتطور العمل الثقافي العربي بدون إعلام ثقافي جاد وصارم. ويلاحظ الآن زخم على مستوى العربي بسبب كثرة الجرائد والدوريات التي تصدر في مختلف الأقطار العربية. لكن ذلك الزخم، مع ذلك، لا يسهم في إثراء المشهد الثقافي العربي أو يدفع في اتجاه بلورة واقع ثقافي متحول. ويكفي أن نقارن بين العربي بين الأمس واليوم لنرى الفرق جليا.
عندما بدأنا الكتابة والتفكير في النشر في بدايات السبعينيات كنا نعرف جيدا المنابر الثقافية الموجودة. كما كانت عندنا فكرة جيدة عن الساحة الثقافية وأطيافها وحساسياتها والمنخرطين فيها. إن هذه المعرفة ضرورية وأساسية لأن أي كاتب قبل أن ينخرط في عملية الكتابة يكون ملزما بأن يبدأ قارئا ومتتبعا جيدا، ينصت بعمق وهدوء إلى ما يمور في الساحة الثقافية العربية، وكأنه بذلك يتلمس موقعه ضمن خارطة الكتابة ما دام يعمل جاهدا على تجويد كتاباته في ضوء المتوفر والكائن. ومن خلال تلك المتابعة المتأنية كنا نلاحظ أن اقتحام هذه الساحة والدخول إليها، محليا وعربيا، دونه خرط القتاد. 
في مجال الكتابة والإبداع لا يمكن أن تكون هناك محسوبية أو علاقات. إن إنتاجك الشعري أو القصصي أو النقدي، إذا كنت مقتنعا به، وتعمل على نقده وتجويده باستمرار هو الذي يمكنك من فرض وجودك وتثبيت اسمك. وعندما ينشر لك مقال أو قصيدة في جريدة، ويظهر اسمك عليها فتلك ولادة جديدة لك، وبداية خجلى للاعتراف بك كاتبا عليه بذل الجهد المضاعف لتثبيت اسمه وطنيا، وفرض وجوده عربيا. 
كانت هناك مراتب ومدارج عليك أن تمر بها. وكلما قبل إنتاجك في مرتبة، تفكر في الانتقال إلى الأخرى بعد أن يصير اسمك متداولا، ويحظى بالاهتمام في هذه المرتبة أو تلك حتى تصل أعلاها، ويصير اسمك معروفا ومقبولا في الساحة الثقافية.
وكما في الرياضة لا يمكنك اللعب مع الكبار إلا إذا تدرجت من قسم الصغار إلى الشباب، وظهرت مواهبك وإمكانات تطورك ومثابرتك، وتميزك. كان الحضور الأدبي والثقافي يبدأ من الثانوية فالإذاعة فالصفحة الثقافية فالملحق الثقافي فالمجلة وأخيرا التفكير في إصدار كتاب. وعليك التدرج في هذه المراتب، وكلما أحسست بأنك تقنع المتعاملين مع هذه المنابر، بحسب هذا الترتيب، كان ذلك عنوان امتلاكك ناصية الكتابة، وعليك الإقدام على المغامرة ومواصلتها. 
يبدأ تميز الكاتب في الثانوية من خلال إنشاءاته المتميزة، ومن خلال النشر في المجلة الحائطية. ولتجاوز هذه المرتبة والانتقال إلى أخرى، عليه أن يتابع البرنامج الإذاعي الخاص بالمواهب، ويفكر في مراسلته، وينتظر أسابيع كاملة، قبل أن يفرج عن قصيدته أو قصته. ثم يكون الانتقال إلى النشر في الصفحات الخاصة بإبداعات الشباب، قبل التفكير في الملحق الثقافي.
كان الساهرون على هذه الملاحق الثقافية من كتاب ونقاد لهم مكانة رمزية وثقافية يتعاملون بجدية وإبداعية وصرامة مع الكتابات الشابة. وكان معنى النشر في أحد الملاحق أنك صرت كاتبا في المجال الذي تخصصت فيه، وأنك أهل لمواصلة مغامرة الكتابة، وأنك جدير بالاعتراف بك “كاتبا” صار له حضور وتميز. ويستدعى للمشاركة في الندوات واللقاءات.
بعد فرض الاسم، في الملاحق الثقافية المتميزة، يأتي النشر في المجلات الثقافية، على المستوى الوطني، ثم يشرع التفكير في مراسلة المجلات العربية، وكانت الطليعة الأدبية والأقلام والآداب وشعر ومواقف ودراسات عربية، وسواها من المجلات الهامة حلما غير قابل للتحقيق للجميع. 
منذ التسعينيات بدأت تفقد صفحات الثقافة وملاحقها إشعاعها ودورها في احتضان الكتاب ذوي المواهب الحقيقية. كما أن المجلات الثقافية العامة بدأت تتقلص باطراد. وبدأت تتدخل عوامل لا علاقة لها بنشر الإبداعات، فساد التسيب والفوضى. ولعل من العوامل التي ساهمت في ذلك ما يلي:
ـ كثرة الجرائد والملاحق الثقافية، وطنيا وعربيا. لقد تضاعف عدد الجرائد، وصارت لكل منها صفحاتها الثقافية وملاحقها. 
ـ غياب الإشراف الرمزي لشخصية أدبية أو ثقافية معروفة ذات مصداقية. وصار أي صحافي، مهما كانت علاقته بالأدب والثقافة، بإمكانه الإشراف على صفحة أو ملحق ثقافي.
ـ عدم الصرامة والجدية في تقييم الإبداعات، وبدأت تتدخل عوامل إيديولوجية أو علاقات شخصية أو تنافسية أو تسويقية في النشر. 
ـ غياب الصفحات الخاصة بكتابات الشباب الإبداعية والنقدية.
وبالتدريج بدأت تصبح الكتابة عملية سهلة. كما أن نشر، ليس فقط القصيدة أو القصة، ولكن الديوان والمجموعة القصصية والرواية، صار في المتناول، وفي زمن قياسي، وبدون أي تعقيد، عكس ما كان عليه الأمر سابقا. وصار ظهور الكتاب يتم وفق آليات لا علاقة لها بما كان في الستينيات وحتى الثمانينيات. وبذلك أمسى الكاتب يقدم نفسه بنفسه بدون سند رمزي من مؤسسة ثقافية أو إعلامية، أو اسم ثقافي له حضوره وآثاره في الساحة الثقافية. لقد فقدت الصفحات والملاحق إشعاعها ودورها في تطوير الإبداع أو النقاش الثقافي أو تقديم الكتاب إلى الساحة الثقافية. تقلصت الصفحات والملاحق الثقافية، إلى درجة أن ” ” صار وجوده كعدمه، ولا يحظى بالاهتمام من لدن القراء والمثقفين. وبعض القنوات التي تحمل عنوان “الثقافية”، أو بعض الصفحات”الثقافية” في الإعلام المكتوب عاجزة كل العجز عن تقديم صورة واقعية أو حقيقية عما تعرفه الساحة الثقافية عموما. فهي لا تعرف بالإصدارات الجديدة، ولا تواكبها. كما أنها لا تقدم إبداعات الكتاب وقراءات النقاد، ولا تسهم في تأطير الواقع الثقافي، أو تفتح النقاش حول بعض الظواهر الأدبية والثقافية، ليكون لها دور فعال في تنشيط الواقع الثقافي وتوجيهه الوجهة التي تتلاءم مع متطلباته، وتفتح بذلك آفاقه.

PAGE * MERGEFORMAT 2

سعيد يقطين