الفنان فريد حسن يحكى عن ذكرياته مع شباب أطار

اثنين, 2016-01-11 22:45

في الشتاء الدافئ لموريتانيا وللعام الدراسي 1977- 1978م وقبيل العطلة الانتصافية باسبوعين تقريبا بينما انا في بيتي في حي (ب-م- د)رقم 42 – اذ بالباب يقرع , وذهب ولدي الاكبر فارس لفتح الباب وكان في الصف الثالث الابتدائي – عاد ليقول لي ان شابا في الباب يريد لقاءك يا أبتي !
ذهبت الى الباب لارى شابا في مقتبل العمر نحيفا اسمر اللون مظهره لايعطيه عمره الحقيقي فقد اعتقدت اولا ان عمره لا يزيد عن الستة عشر او السبعة عشر عاما ؟
سالني هل انت فريد حسن ؟ رحبت به وقلت له: نعم تفضل بالدخول , جلسنا في حديقة المنزل – عرفني على نفسه انه من فرع الشباب في اطار ويدعى احمد العبيد – قلت له : تشرفت 
قال : لقد ارسلني الشباب لادعوك لزيارة اطار واقامة عدة حفلات فيها , وان اتفق معك على الشروط التي تطلبها !
بصراحة ترددت كثيرا فشاب اعتقدت انه لايزيد عن السبعة عشر عاما من العمر وقادم لوحده , ولم يحضر كتابا خطيا مثلا يبين انه فعلا مرسل من فرع شباب اطار وظننت ان هذا الشاب يمازحني او يدعوني من تلقاء ذاته ليس الا ؟
وكعادتي في احترام الانسان كبيرا كان ام صغيرا , حاورته لاعرف من خلال الحوار مدى تماسك كلامة وصحته وقال الرجل ماهي الشروط التي تريد اشتراطها حتى تقيم الامسيات الفنية في اطار ؟
كنت اسمع عن اطار الكثير وكنت ارغب اصلا في زيارتها , قلت له لا شروط عندي سوى تامين النقل من والى اطار – وتامين المبيت – اما ماعدا ذلك فلا يهم , فقال: السكن جاهز وقد اعددناه اعدادا لائقا – والسفر سيكون بالطائرة وانا الان ساذهب لاحضار بطاقة الطائرة واتفقنا ان يكون موعد اقامة الحفلة ثاني يوم من العطلة الانتصافية – وان يكون سفري اول يوم في العطلة , خرج من البيت متجها الى مكتب ايرموريتان التي كان لها مكتب لايبعد عن بيتي الا ثلاث دقائق سيرا على الاقدام , مضى بعض الوقت ولم يات , وعاد الشيطان ليقول لي ان الشاب انما جاء لرؤيتك والسلام عليك , وان ماقاله لايزيد عن كونه مزاحا او تسلية او حبا في التعرف على فنان , وقبل ان استمر في استعراض الاحتمالات التي جاءني الشيطان بها قرع الرجل الباب ثانية فقلت له تفضل وما زال الكرسيان اللذان كنا نجلس عليهما في نفس مكانهما , فجلس واخرج البطاقة من (اللبنه) جيب الدراعة , التاريخ اول يوم في العطلة , والبطاقة ذهاب واياب , عندها غادر الشيطان راسي وعرفت ان الموضوع خال من أي مزاح او غير ذلك مما دس به شيطاني الرجيم ؟
قلت له بلغ سلامي لشباب اطار وقل لهم اني ساكون هناك صباح اول يوم في العطلة في مطار اطار وودعته ودخلت الدار احدث عيالي بما اتفقت عليه مع الشاب , 
لم اعط الموضوع اكثر مما يستحق من اهتمام وتركته للايام تعمل عملها فيه , فكل مايريده الله خير , ولتكن تجربة اخرى اضيفها الى تجارب عمري التي لاتحصى , و انا كفنان علي ان التقي بجمهوري في كل مكان ومن واجبي ان اسهل له لقائي فانا واحد وهم بمئات الالاف , انا استطيع الذهاب اليهم , اما هم فالاغلبية العظمى منهم لا تستطيع ان تاتي الي , وذهابي قد يكون متعبا لي لكنه ضروري , فكم كنت اتوق لرؤية محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وام كلثوم وعبد الحليم حافظ حتى لو كان ذلك مجرد رؤية من بعيد , فكما انهم أي جمهوري يحبونني ويرغبون في رؤيتي فعلي ان ابادلهم نفس الشعور ! !
اقتربت العطلة الانتصافية وانهيت استعداداتي للسفر- العود- وريش عديدة احتياط - والجاجات الشخصية التي سآخذها معي !
الغد هو موعد السفر كل شيء جاهز حتى برنامج الحفلة وما ساغنيه : درسك ياغلانه – فرحة العيد – انتي موريتانية وانا من حلب – دوم يالله ذي الحيلة - كتائب موريتان – افريقيين وعرب الاتنين – بالي حالف يمين – بساط الريح وكلها من الحاني عدا الاخيرة من الحان فريد الاطرش .
كان صباح يوم السفر حملت حقيبة متاعي بيد والعود بالاخرى بعد ان ودعت الزوجة والاولاد, ومع اغلاق باب الدار كان مشهد غريب لم ار مثيلا له من قبل ينتظرني , لقد شهدت اياما مغبرة من قبل لكن كغبار ذلك اليوم لم اشهد, الى درجة انك لاتستطيع رؤية الانسان الذي يمر في الطرف الاخر من الطريق , تابعت السير باتجاه المفرق الذي لايبعد اكثر من عشرات الامتار من سيارات التكسي التي تنقل من المقاطعة الخامسه الى الاكصر والتي ساستقلها كي انزل في المطار ؟
وصلت المطار وانا متحضر ان يقال لي لا طائرة اليوم , لكن عسى ولعل انتظارا او تأجيلا لوقت قريب يكون هو الحل , لم يكن في المطار الا شخصين او ثلاثة , ولعل الركاب الاخرين لم يأتوا لأنهم من تجاربهم السابقة يعرفون أي الايام المغبرة يمكن السفر فيها وأيها لا يمكن , لقد كانت تلك سفرتي الاولى بالطائرة داخل موريتانيا فانا لا اعرف كيف يتعاملون مع ظروف كهذه مع السفر ومع الركاب والبطاقات هذا من جهة, ومن جهة اخرى لقد وعدت الناس , وهم سيجرون استعدادتهم ويهيئون للحفلة , وكل من يعرفني ومنذ صباي يعرف ان من المستحيل ان اخلف وعدا مهما كان قليل الاهمية فكيف والحالة هذه مدينة كاملة تنتظر قدومي ؟
سألت الرجل القابع في الكوة اين الطائرة ؟ اشار لي الى مدرج المطار الذي لا يمكن رؤية شيء فيه , واردف قائلا هل يمكن للطائرة ان تطير في جو كهذا ؟ قلت له : والحل ؟ 
اراد التخلص او التهرب مني ومن الشخصين الذين اقتربا ليسمعا رده !
اذهبوا الآن الى بيوتكم وعندما تجدوا ان الغبار انقشع راجعوا ادارة اير موريتان , وهي التي ستعطيكم الاجابة الشافية الكافية !
سلكت طريق العودة راجعا الى البيت تعجبت الاسرة من عودتي فشرحت لهم ما حصل , بعيد ذلك ترددت على اير موريتان عدة مرات وخاصة ان الغبار بدأ يتناقص بين المرة والأخرى حتى تلاشى في فترة الظهيرة لكنهم قالوا ان الركاب ليسوا موجودين وفي حالة كهذه تؤجل الرحلة الى موعد الرحلة القادمة وتدمج الرحلتان !
عندها علمت ان كل شيء قد تخرب, واصبحت تائها لاحيلة لي !
والمشكلة انه لاتوجد اتصالات حتى اعتذر او نؤجل او.....الخ من حلول اتفق فيها مع فرع اطار للشباب ,
نصحني البعض في اير موريتان والمطار ان اذهب بالسيارة فاكثر الناس ينتقلون من والى اطار في السيارات الكبيرة المارسيدس فوق البضائع متمتعين بالرياح الباردة احيانا والحارة في اكثر الاحيان ناهيك عن الغبار , وطبعا لن تكون تلك هي الوسيلة التي ساستخدمها للوصول الى اطار , وهناك الوسيلة الثانية سيارات البيجو فاميليا التي تتسع لسبع ركاب لكنهم يحملون ثمانية ركاب , وهي التي يمكن ان استخدمها , لكن الوضع الامني الذي كان سائدا يومها حيث المعارك بين البوليساريو من جهة والجيشين الموريتاني والمغربي من جهة اخرى , والاشاعات في ظروف الحروب والازمات تكون كثيرة ويغلب الكذب فيها على الحقيقة عشرات المرات , لذلك ترددت قليلا قبل ان افكر عمليا بالموضوع , لكن ماحصل مساء حسم الموقف نهائيا , فقد ذهبت لزيارة زملاء سوريين يسكنون في حي لوكا , وبالصدفة كان قد جاء من مدرسي مدينة اطار بعضهم لشراء حاجيات او حل مشاكلهم الوظيفية في الوزارة, والسفارة السورية ,
وكانت هي المرة الاولى التي التقي بهم او يلتقون بي , قالوا لي لقد سمعنا عنك الكثير لكننا الآن رايناك , ان الناس في اطار يحبونك كثيرا ولاجلك يحبوننا اكثر , ولقد باشروا بالزينات والكتابات في الشوارع ترحيبا بك , ونحن نعرف ان الحفلة موعدها في الغد فلماذا لم تذهب اليوم ؟, اخبرتهم بما حصل لي , فقالوا: ولماذا لم تذهب في البر ؟ اجبت انه عدا عن التعب والغبار هناك الوضع الامني !
هونوا الامر وقالوا ان الناس كل يوم يسافرون وليس هناك أي مشكلة حصلت مع احد منهم !
رجوني ان لا أتأخر قائلين ان الناس ستنظر لك بل ولنا ايضا نظرة اخرى غير تلك النظرة الجميلة التي ينظرون اليك فيها الآن ولنا لاجلك ؟
وعدتهم ان اسافر في الصباح الباكر مع اول سيارة , وهذا ما حصل في الغد حيث توجهت الى كاراج السيارات الصغيرة في الاكصر شمالي غرب المطار , انطلقت السيارة ونالنا من التعب والغبار ما نالنا , وبعيد الطهر بقليل كنا في اطار :
اين الشوارع المزينه التي حدثني عنها اساتذة اطار السوريون؟ ,اين الكتابات ؟, رغم عدم توقعي في الاصل ان يكون الامر كذلك, لكن لم قالوا لي ذلك؟ هل كان الامر لدفعي الى الذهاب خوفا من نقد الناس لي ولهم كونهم ابناء بلدي؟ , طلبت من السائق ان يوصلني الى بيت رئيس فرع الشباب , ففعل - وقال : هذا هو بيته !
قرعت الباب وخرج احد الشباب , وكان البقية يتناولون طعام الغداء الكسكس الموريتاني الاسمر – كانوا قد وصلوا الى مرحلة ماقبل الانتهاء من الغداء – لم يتحرك احد من مكانه بل تابعوا طعامهم , بل عاد الذي فتح الباب ليتابع طعام , الجميع منهمكون في الاكل , لا احد دعاني ولو بالكلام فقط لانه اصلا لم يبق ما يؤكل في القصعة .
صدقا تالمت لما تصورته وخاصة بعد حديث الاساتذه السوريين عن استعدادات للاستقبال والزينه والكتابات , لااحد يقف تاركا الطعام لاستقبالي كضيف حللت عليهم ,( طبعا هنا تختلط افكاري المسبقة لعاداتنا في سورية والعادات في موريتانيا التي كنت ما أزال قليل الخبرة بها) وبعد لحظات ستاتيني الاجابات عن كل تساؤلاتي اسرع الناس في تناول اللقيمات الاخيرة من غدائهم , وقاموا يغسلون ايديهم من سمن اطار الذي كان يوضع فوق الكسكس و طلبوا مني ان اصعد الى السيارة الى جانب احد الشباب ليوصلني الى البيت المخصص لاقامتي , على الطريق بدات الحظ الكتابات , والزينه بجريد النخيل في الشوراع المؤدية الى مكان سكني والمنطلقة منه الى دار الشباب , نعم انه كلام منطقي وواقعي وكاف بل هو زائد , بدأ الشعور يتغير من السلب الى الايجاب , لم يكن البيت بعيدا ففي دقائق كنا امام البيت , كان بيتا جميلا بالقياس لاغلب البيوت التي مررنا بها , كان باب الدار مقفلا, قام سائق السيارة بفتحه ودعاني للدخول , واتجهنا الى بهو واسع تحاوره عدة غرف ومطبخ واسع , ارشدني الى الحمام وقال اولا تستحم لتتخلص من الغبار الكثير الذي علق بك من سفرتك المتعبه و والى ان تستحم سيكون الطعام جاهزا , وهذا ما فعلت فعلا , فما ان خرجت من الحمام حتى وجدت صخبا في الدار فقد امتلات بالشباب ومن بينهم الشاب الذي اصبح فيما بعد من اعز اصدقائي احمد العبيد ( وانا بالمناسبه هنا اعتذر منه لاني لاول مرة اعبر عن مشاعري الحقيقية عندما تحدثت عن بداية تعرفي اليه ) لكنني بعدها عرفت انني امام رجل يقل مثيله في هذا الزمان وقد بدات نظرتي اليه تتغير من لحظة احضار بطاقة الطائرة - ثم العمل المنظم الذي قام به فرع الشباب في اطار والانضباط والتفاعل والتفاهم والمودة والاحترام لبعضهم البعض والتخطيط الدقيق وعدم وجود أي اخطاء خلال كل الاعمال والانشطة المتعددة التي قمنا بها والتي ساتحدث عنها وعن حفلات الليالي الثلاث التي احييتها وقتها في اطار برفقتي عودي فقط 
والى القصاصة المتممة لهذه القصاصة من مذكراتي في موريتانيا استودعكم الله