جسدُ الهوية وخواء السياسة

سبت, 2016-02-06 20:19

كْمِل إذن حديث بَكَواتٍ لبنانيين شَغَلوا مواقعَ في عالَم الطفل الريفي الذي كنتُه.
كان رشيد بك هو البك «النادر» الآخر الذي اعتمدته في مخزوني الاحتياطي من البكوات. وأقول «نادر» لأن اسمه، شأن اسم حسن بك، بقي قليل التداول حولي. كان هذا البك من عائلتنا نفسها ولكنه كان ينتمي إلى الفرع البيروتي منها. وكان قد أصبح بيروتي الملعب بعد أن نقل كرسيّه النيابي من الجنوب إلى العاصمة. وكانت بكويته مؤكّدة بحكم أدوارٍ بارزة لعبها قبل أن أولد. وهذا بخلاف والدي الذي كان أصغر منه سنّاً وأَبْعد عن مركز السلطة، وكان لا يزال يسعى إلى التكريس النيابي. ولم تكن علاقة والدي برشيد حسنةً دائماً، لا بسببٍ من منافسةٍ لم تكن واردة، بل بسببٍ من تقلّب التحالفات الواسعة الذي كان ينتهي بالرجلين، أحياناً، كلّاً إلى صفّ من صفّي الزعامات الشيعية المتقابلَيْن. مع ذلك كانت مكانة رشيد بك ودوره مبعث اعتزاز إجماليّ لعائلتنا، مشوبٍ ببعض عتَبٍ مصدره أن هذ البك لم يكن يولي اهتماماً لتعزيز الفرع المقيم في جبل عامل من العائلة ـ أي نحن ـ بل كان يبدو أقرب أحياناً إلى خصوم هذا الفرع البلديين.
أهمّ من هذا كلّه عندي كان أن البك المذكور طارت له سمعةُ وسامةٍ باهرة شهدَت بها صورة انتخابية ظهر فيها شابّاً بطربوشه وشاربيه العقربيين ونظرته المتشاوفة. وذات يومٍ حضر رشيد بك لزيارة الوالد في بلدتنا، وكنت لا أزال دون العاشرة أيضاً. وكان العِلْم بالزيارة قد وصل قبل أيّام من حصولها وأعدّت العدّة لاستقبال البك. هذه العدّة انطوت على قصيدة قصيرة كتبها لي معلّم في مدرستي، كان أوّل من دخل سلك التعليم الرسمي من العائلة. وكان عليّ أن ألقي القصيدة بين يدي البك ومطلعها: «هذا كلام صغارنا / أَكْرِم بفعل كبارنا»… ثمّ أرشق البكَ بباقةٍ من الزهور بعد ان أعلنَ عن نيّتي الإقدام على هذا الفعل في البيت الأخير من القصيدة. وهو ما فعلتُه وكوفئَ بتصفيق الحضور الغفير.
لاحقاً سمعتُ والدتي تروي أن البك دمعَت عيناه حين قبّلني بعد انتهائي من إلقاء القصيدة. لم أكن لاحظتُ هذه الدمعة، من جهتي، ولكن لا ريب أن بعض الحضور ذكروا أمرها للوالدة. وقد علّلَتها الوالدة بأن البك غلبه التأثّر من ألمَعِيّتي لأنه، مع تقدّمه في السنّ، لم يكن قد أنجب! عليه كثرت دواعي شكّي في استحقاق هذا البك بكويّته، مع أنه كان، على الأرجح، أوّل بكٍ يشعر بوجودي فيشهد بحُسْن إلقائي ويخُصّني بقبلة شكرٍ سامية! كان تامّ الأناقة، لا غضون في سترته، ويعزّز امتياز مظهره شيءٌ من الذهب عدتُ لا أذكر اليوم إن كان خاتماً أم سلسلة! ولكنّ التجاعيد ومعها الشيب كانت قد باشرت ظهورها في وجهه فبدا لي أن وسامته الأسطورية آخذةٌ في التراجع. كان الرجل أقصرَ قامة من حسن بك أيضاً… وأمّا قاصمة الظهر فكانت تأكيد والدتي أنه لا ينجب.
ففي صورة الزعيم المثلى، كانت ماثلةً عناصر الوسامة والشباب والقوّة العضلية وكلّها معزّزة للسلطة. وكانت الفحولةُ مفترضةً أيضاً ولم يكن وارداً التمييزُ بينها وبين القدرة على الإنجاب. فإذا ظهر من البك عجزٌ عن هذا الأخير أوشك ذلك أن يستوي علامة موحية بانقراض العائلة، والعياذ بالله! أو بخلوّها من الزعامة وخمول ذكرها، في الأقلّ. 
استوى لقاء رشيد بك إذن امتحاناً آخر يجريه مجتمعنا الضيّق، بتوسّط مخيّلتي، لما كان يجب أن تكونه البكوية أو الزعامة. وكان ما سبق ذكره من الأوصاف الجسدية شروط الحدّ الأدنى لاستحقاق الموقع. بعد هذا، كانت تضاف أوصافٌ أخرى قد تتّصل بالخلق: بالشجاعة والكرم، بالتواضع والإقبال على الخدمة، بالأمانة ولكن أيضاً بالثراء ما أمكن، وعلى الخصوص بسعة الأملاك. ولكن كان يبدو أن هذا كلّه محتاجٌ إلى بنية تحتية مناسبة هي جسم الزعيم ببهاء طلعته ومتانة بنيته. وما من ريب أن هذا كلّه لم يكن يتيسّر، في الزعماء المتاحين، أو لم يكن يدوم. ولكن ذلك كان مفترضاً في مخيّلتي الفتيّة وكانت مخيّلتي تلك بنت بيئةٍ بعينها ولم تكن مخيّلتي وحدي.
وأمّا الداعي إلى هذا التجسيد للزعامة، أي إلى مثولها في جسدٍ تملي أوصافه المثلى، فهو امتلاؤها بالهويّة وخواؤها من السياسة بما هي مقاصدُ لجماعاتٍ متحوّلة ومُثلٌ لا ترسمها جماعاتٌ جاهزة بل تتشكّل للاضطلاع بها الجماعات. والهويّة ههنا هي هويّة العائلة والزعامة فيها شخص ذو صورة. ولكن يسع الهويّة أيضاً أن تكون هويّة جماعة من صنفٍ آخر وتبقى أو تصبحَ معزّزة لهذا النوع الشخصي، بل الجسدي، من الزعامة. 
لا ريب أن الهويّة كانت متّصلةً بحفنةٍ من المصالح. ولكن المصالح كانت هي نفسها تقريباً مشتملة على الجهتين المتخاصمتين. كان الفائز يصبح قادراً على المزيد من المساعدة الشخصية للطالبين: لموظّف يرغب في نقل مكان عمله، لصاحب معاملة يخشى إهمالها في الإدارة، لمرتكبِ مخالفة أو جنحة يأمل تخفيفاً لعقوبته، إلخ. كانت «الندرة» صفةً مفترضةً ضمناً لهذه الممكنات كلّها… فلا يصحّ، بالتالي، أن يفترض تيسّرها للعائلتين المتخاصمتين معاً. على صعيد أعمّ، كان الخصوم يتداولون الحديث نفسه عن الإهمال الحائق بالمنطقة: عن سوء حال الطرقات وغياب شبكات المياه والكهرباء، عن ندرة المدارس وخواء الوفاض من المستوصفات، ناهيك بالمستشفيات. فإذا اتسع نطاق الأحلام المطلبية إلى صعيد الطائفة ذُكِرت، على الخصوص، قلّة نصيبها من الوظائف الحكومية… هذا الصنف من المطالب كلّه كان يُدّخر، على الأغلب، للمفترقات الكبرى: لموسم الانتخابات النيابية أو لتسَلّم رئيس جديد للجمهورية، إلخ. وأما ما يدعى «خطّاً سياسيّاً» فكان، في صيغته العملية، لا اللفظية، يقفز بخفّة عن الداخل اللبناني ومعضلات نظامه إلى المجال «القومي». وعلى هذا الصعيد كانت هوامش الاختلاف ضيقة بين الخصوم ولكن كان التقلّب وارداً مع اختلاف السياسات «العليا» والعهود. 
يبقى أن أشير إلى أن أحمد بك لم يعمّر طويلاً فلم أشاهده وهو يشيخ. ولكنني التقيت حسن بك مراراً، عبر السنين، لا في لباس الفارس، بل في بذلة عادية وبلا حصان. وكان بالغ اللطف يجاملني كثيراً وقد عاينت ترهّل جسمه وتغيّر سحنته قبل أن يذهب به المرض. كذلك زرت مع والدي رشيد بك قبيل وفاته وكان شيخاً ضعيفاً أنهكه الباركنسون. وعايشت أخيراً تقدّم والدي في العمر وذهاب السكّري بعافيته ثم مرض قلبه الذي انتهى بمفارقته إيّانا.
ليس هذا وحسب، بل إنني أنا نفسي قد بلغتُ الكبر ودخلتُ، من غير حاجةٍ إلى البكوية، في الشيخوخة. فأخذت أفقد تباعاً ما كان في طلعتي وفي بنيتي يشبه من قريبٍ أو بعيد ما كنت أجعله شرطاً للبكوية. هذا ما يحصُل في كلّ حال! وآخر دعوانا أن من يجعل «الصبا والجمال»، ومن ورائهما الهويّة، كلّ «قضيّته» خاسرٌ لا محالة، في آخر مطافٍ ما، فرداً كان أم جماعة!

كاتب لبناني

أحمد بيضون