في انتظار أبو زيد

سبت, 2014-07-19 23:25

كلما زادت حدة التطرف الديني على امتداد الوطن العربي، لتصل إلى هذا الحد من السريالية والفوضى بحيث يفقد العقل أمامها أي قدرة على التحليل والفهم، إلا وتذكرت أحد أهرامات التنوير العربي الحديث، وهو الدكتور نصر حامد أبو زيد. كان لي بالصدفة أول لقاء به عبر كتابه «نقد الخطاب الديني»، الذي أهدته لي أستاذة لغة فرنسية بقصَّة شَعر قصيرة بعد حوار دار بيني وبينها في ساحة الثانوية عن حسن البنا الزعيم الروحي المؤسس لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وعن الجماعات الإسلامية، لأدمن بعد ذلك على تتبع كتبه ومقالاته وأبحاثه، موسعا عيني جيدا لأستوعب وأنا أقرأ مفكرا إشكاليا بحجم نصر حامد أبو زيد المختص في الدراسات القرآنية، يحرض على استعمال العقل بجرأة في فهم النص الديني عوض تعطيله، كاشفا أمامك ما جهد الفقهاء عبر كل هذا التاريخ الطويل على إخفائه إما لقصور ظاهر في عقولهم عن التعامل المنفتح مع ذلك النص الذي بالتأكيد يفوق قدرتهم على الفهم والتحليل، بالتالي فهموه وفسروه عبر ذلك القصور وقدسوا ذلك الفهم وفرضوه على الناس وأحاطوه بأسلاك شائكة تمنع إعمال العقل والتأويل فيه وتكفر كل من حاول ذلك، وتصل بحدود ذلك التكفير إلى إقامة الحد بالسيف، وإما للحفاظ على مصالح مادية وسياسية عبر منصب الفقيه ذاك الذي خول لهم دائما سلطة مستمرة على البلاد والعباد إلى حد الآن تعضد ركائز الاستبداد وتبرر له وتثبته.
من هنا تأتي أهمية الإشارة هنا إلى هذا المفكر الكبير، في هذا الوقت بالذات الذي نفتقد فيه بشدة إلى الفكر لمواجهة الجهل المتجسد في دوامة المد الديني المتطرف التي تبلع شبابنا بسهولة قبل شروعهم في التفكير لتحولهم إلى قنابل مغلقة على الخراب. طبعا سهولة الخطاب الديني الجاهز وشعبويته تلاقي استجابة سريعة من هؤلاء الشباب الذين في مقتبل العمر، واستجابة أيضا من عموم الشعب العربي، باعتبار ذلك موافقا لنسبة الأمية الكبيرة والتجهيل الممنهج الذي مورس على هذه الشعوب لزمن طويل. في المقابل يجد فكر نصر حامد أبو زيد المستنير صعوبة شديدة في الانتشار لطبيعة هذا الفكر المعرفية المركبة والرصينة التي تحتاج أولا إلى قارئ وثانيا أن يكون ذلك القارئ مستعدا للتفكير والبحث وهذا يبدو منعدما تقريبا في أوطاننا العربية. أيضا من العوائق الكبيرة أمام انتشار فكر هذا المفكر هي محاربته من طرف الفقهاء ومؤسسات هذه الدول وتغييبه والتضييق على كتبه وتشويه صورته. وقد استمر ذلك منذ تكفيره ورفض الجامعة ترقيته، حيث تم سحب كتبه من المكتبة، وإصدار حكم قضائي بتطليقه من زوجته بالاستناد إلى «محكمة الأحوال الشخصية» استنادا إلى نصوص فقهية للإمام أبي حنيفة النعمان، ووفقاً لما يسمى بـ «الحسبة»، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، أو البقاء على ذمته بعد ردّته. ثُم التضييق عليه وعلى تحركاته داخل الجامعة إلى أن غادر مصر في اتجاه المنفى بهولندا.
السؤال الذي حيرني دائما، هو كيف يمكن إيصال صوت هذا المفكر المتنور بالإضافة إلى أصوات مفكرين عرب آخرين متنورين بحجمه، كيف يمكن إيصاله إلى الشاب والمواطن العربي رغم كل هذه الظروف من التجهيل والتكفير والمنع والتضييق؟ انتبهت إلى ما يمكن اعتباره إجابة من بين إجابات عديدة بالصدفة، وأنا أبحث في موقع اليوتيوب عن بعض محاضراته رأيت هذا العنوان: «في انتظار أبو زيد» فتذكرت أنه عنوان الفيلم الوثائقي الذي صوره المخرج والكاتب السوري محمد علي الأتاسي مع الراحل نصر على امتداد ست سنوات، وعرضه على المعلّم نصر قبل رحيله بفترة قصيرة. هذه المرة أعدت مشاهدة الفيلم بانتباه كبير إلى قوة هذا الوسيط ـ السينما ـ في كل الأزمنة وخصوصا في زمننا الحاضر، على الانتشار السريع والتأثير. لاحظت غياب أي أفلام من هذا النوع في تاريخ السينما العربية خصوصا عن المفكرين المعاصرين. استفزتني هذه الملاحظة لطرح عدد كبير من الأسئلة، إلى أي حد ظلت السينما تجارية وبعيدة عن متناول التنوير؟ هل مرد ذلك فقط إلى المال أم إلى السياسة أيضا؟ أم إلى جهل المخرجين والمنتجين والممثلين بمفكري عصرهم وبقوة التأثير الممكنة برسم بورتريهات سينيمائية لهم وإشاعتهم بين الناس بإضاءة حياتهم وفكرهم وتحويلهم في الأذهان من سطور أكاديمية جافة إلى شخوص إنسانية قريبة ومحبوبة وحميمة ويمكنها أن تلعب دور المخلّص في الأزمات؟ 
بالنسبة لي فيلم «في انتظار أبو زيد» الحائز على جائزة مهرجان «أيام سينما الواقع» بدمشق في دورته الرابعة، وجائزة مهرجان مارسيليا، هو فيلم نموذجي للجواب على إشكالية تقديم الفكر على الشاشة، فبرغم العوائق المادية والتقنية التي واجهت المخرج، إلا أن الفيلم لاقى استحسان الكثيرين باعتباره تحديا حقيقيا لتاريخ السينما العربية، وتأكيدا على إمكانية نجاح فتح جبهات فكرية عبر هذا الوسيط الخطير. خصوصا حين يكون مخرج الفيلم كمحمد علي الأتاسي المخرج والكاتب الصحافي مسلحا بصداقة للفكر وبدكتوراة في التاريخ من «جامعة السوربون». 
يصور الفيلم بورتريه بسيطا للمفكر الكبير نصر حامد أبو زيد حيث تتبعه الكاميرا طيلة زمن الفيلم (ساعة وعشرون دقيقة تقريبا) تواجهه تفاجئه ترافقه وتتواطأ معه. 
يبدأ العرض بتصوير طاولة مضاءة بالإضافة إلى كرسيين فارغين ومكروفونين وجلبة قلقة لجمهور ينتظر في الخلفية، وهي صورة مفتوحة على تأويلات ودلالات كثيرة، ينتهــــي الفيلم بهـــذا المشهد كما يبدأ به. تبدو في الصورة بوابة مطــــار بيروت الدّوّارة برمزية كثيفة للانتظار. بعد ذلك يستعرض الفيلم في جزئه الأساسي أفكار أبو زيد وطريقته المنفتحة في النقــــاش خلال محاضرات قدمها في عواصم ومدن ومقابلات تلفزيونية خــــص بها قنوات عربية وأجنبية.
يبدو أبو زيد إنسانا عاطفيا بالإضافة إلى أنه المفكر العقلاني الصارم، يضحك وينكّت ويتفاعل بعفوية، ويبكي أيضا حين يحرك صوت الشيخ إمام حنينه وأشجانه. هنا تكمن قوة هذا الفيلم في نظري، أنه استطاع تصوير نصر حامد أبو زيد الإنسان، في علاقته بأصدقائه وبطلابه (يتحدث في الفيلم أيضا تلميذه النقدي محمد حاكم) وبزوجته الدكتورة ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي، التي تحدثت عنه وعن محنة تكفيره وحكم الطلاق الذي صدر بحقهما، وعن قوة ارتباطهما الروحي والفكري ببعض التي لم يستطع معاديه وعلى رأسهم عبد الصبور شاهين ولا «محكمة الأحوال الشخصية» ولا سلطة المجتمع، لم يستطع كل ذلك فصلهما عن بعض، فقد لحقته زوجته الدكتورة ابتهال يونس إلى المنفى باعتبارها زوجته، ضاربين قرار المحكمة والمعادين المتزمتين بعرض الحائط. وهو انتصار معنوي حقيقي في معركة كبيرة خاسرة، كما أنه إشارة قوية يمكننا التقاطها للإيمان عميقا بإمكانية انتصار الحب والنور على الظلام حين نصرّ على ذلك.

٭ كاتب مغربي

محمد بنميلود