حديث السبت: بعد خمس سنوات من “ارحل” و”الشعب يريد إسقاط النظام”

سبت, 2016-02-27 21:57

د. محمد بدي ابنو

“لا يمكن أن يتهاطل المطر في بيت الجيران دون أن يصل البلل إلى قدمي”. مثل صيني

 

ـ1ـ

في سياق مقابلة ظهرتْ هذا الأسبوع طرحتْ عليَ وكالةُ الأخبار الموريتانية السؤال التالي “ـ هناك من يقول إن الشعوب أتت بالربيع العربي وقوى إقليمية ودولية أتت بالخريف العربي. ما تعليقكم بعيدا عن جدل ثنائية من أتى بالربيع ومن أخذه، وما مستقبل الربيع العربي بعد خمس سنوات من محاولة الشعوب العربية التحرك؟”

ـ العبارة التي افتتحتم بها سؤالكم وجيهة في نظري إلى حدّ كبير. لنتذكّر هنا مسألة بديهية وهي أن الربيع العربي كأي حركة اجتماعية عميقة وطوفان شعبي كبير لا يستطيع أحد أن يأتي به ما عدا الحركة الاجتماعية ذاتها.  الأنظمة الغربية كالأنظمة العربية آخر ما كان باستطاعتها تخيله هو أن يندلع ما سمي بالربيع العربي. لقد مثّلَ بالنسبة لها في بداياته حرفيا كابوس الكوابيس المرعبة. القادة الغربيون الذي ظلوا يربتون على كتفي بن علي أو على كتفي مبارك صار عليهم فجأة مراعاةً لرأيهم العام أن يقولوا للأول كما للثاني “ارحل”. أضحى عليهم أن يُظهروا رغما عنهم فرحهم المفتعل برحيل الإثنين رغم حسرتهم التي لم يستطيعوا تماما إخفاءها.  وتَعتبر جميع وحدات البحث الجامعية المعنية ومراكز الأبحاث الغربية الجادّة أن ما حدث يُعتبر فشلا ذريعا لها لأنها لم تستطع توقعه لا من بعيد ولا من قريب. انقلبتْ المعطيات فجأة رأسا على عقب. ولذلك بذلتْ مراكزُ القرار الغربية كلَّ ما بوسعها من أجل استعادة زمام المبادرة والتأثير على الربيع وتغيير وُجْهته. تماما كما بذلتْه الأنظمة العربية المتحالفة معها.

 والمنطقة العربية طبعا، لأسباب عديدة معروفة، سهلةُ التأثر بالأجندات الدولية. كل الوسائل والأدوات التي استخدمها الربيع أخذتْ بسرعة تُستخدمُ ضدّه.

 

ـ2ـ

وبالتالي الكثير من الدول لم تخشَ فقط من خطر هذا الطوفان على مصالحَها داخل الدول العربية أومِنْ تَغيّر الفئات النافذة والبنية الهرمية السياسية، بل خشيتْ أيضا انتقالَ الحراك نفسِه إلى داخلها هي بما في ذلك جميع الدول التي تُعتبر دولا ديمقراطية هادئة كالدول الرأسمالية الديموقراطية. لم تكن لهذه الدول أي مناعة كلية. ما حصل في العالم العربي بحكم ضخامة طوفانه الأول نَكأَ ما يمكن أن نقول عنه إنه جراحٌ دفينة في شرائح واسعة في الدول الرأسمالية. هم ليسوا من السذاجة بحيث يخيل لهم أنهم محصنون ضد الهزات الاجتماعية. من تابعَ حينَها رُدود فعل عددٍ من التيارات الاجتماعية والسياسية والحركات العمالية إلخ ومدى تأثّرها بمفردات تعبوية ذات كثافة دلالية جديدة مثل “ارحل” و”الشعب يريد اسقاط النظام” يدرك حجم الخوف الذي شعرتْ به المركزيات السياسية في الدول النافذة.

 

ـ3ـ

ـ والآن إلى أين؟

المنطقة العربية تأخرتْ كثيرا في التحول السياسي. وربما يفسّر هذا العاملُ جزئيا قوةَ الطوفان الذي عرفتْه سنةْ 2011. ولكنه طوفان لا يمكن أن يذهب سدى. هذا الطوفان ناتج على أقل تقدير عن مجموعة معطيات ماثلة، منها تجدد الأجيال السريع الذي شهده العالم العربي ومنها قضية التحولات التي عرفتْها بنية العائلة التقليدية أو البَيْــعائلية ومنها الفضاء اللغوي المعجمي التواصلي الجديد ومنها إلخ.  صحيح أن مستوى التعليم بقي بالغ التدني في العالم العربي وتوسعه الكمي الأفقي الكبير توازى مع تراجع  ـ وأحيانا كثيرة مع سقوط حرّ ـ لمستواه الكيفي أو العمودي. ولكن التوسّع الكمي حتى ولو كان على حساب الكيف له انعكاسات كثيفة إيحابا وسلبا لا سيما على مستوى الاندماج الاجتماعي للفئات المهمشة وعلى تنامي شعورها بالحرمان. وهذه النقطة الأخيرة كانت ملموسة مثلا في مصر. لنلاحظ أنه في مصر هنالك ما يعرف بالاكتظاظ العمالي خصوصا في المدن الكبيرة. ولا يمكن أن يحصل هذا في أي منطقة من العالم دون أن يصبح في فترة من الفترات عنصرا أساسيا للفعل السياسي. إلى ذلك لا يمكن أن يحصل تحركٌ كبير بهذا الكمّ الطوفاني وتشعر الحشود أنها هي التي كانت لا شيء أصبحتْ كلَّ شيء، هي التي كانت خارج التاريخ وخارج الفعل أصبحتْ فجأة في الميدان هي التاريخ وهي الفعل، أقول لا يمكن أن يحدث هذا الشعور أو هذا الوعي، الفعلي أو المزيف،  ثمّ تقبل الناس أن ترجع إلى بيوتها وتغلق عليها الأبواب لفترة طويلة. هذا صعبٌ على الأقل إذا قارناه بالتجارب الأخرى. أقول هذا بكثير من التحفظ الخلدوني أو النيوكانتي على المقارنات أو المماثلات التاريخية المتسرّعة أو التعميم التقعيدي في الاجتماع و السياسة المبني على استقراءٍ غير نسقي للظواهر الاجتماعية.

 

ـ4ـ

وسائل الاعلام الأوربية لم تكن متفائلة مع الثورات العربية وأطلقتْ عليها تشاؤميا تسمية الربيع العربي مقارنة مع ربيع الشعوب لسنة 1848  فقدْ مثلتْ نتائج الأخير الأولى انتكاسة كبيرة للشعوب الأوربية التي ثارتْ تزامنيا مع اندلاعه. منذ تلكَ الأحداث في منتصف القرن التاسع عشر مرورا بربيع بودابست سنة 1956 أو بربيع براغ سنة 1968 وصولا إلى ربيع بيكين سنة 1989 أو ربيع أوربا الشرقية أصبحتْ كلمة ربيع كذا تسمية تُطلَق أساسا بنوعٍ من التبسيط والتسرّع الإعلامي على ما اعتبرَ ثورات فورانية فاشلة. وهنالك فعلا أوجه شبهٍ متعدّدة بين ما سُمّي بربيع الشعوب لسنة 1848 وما سُمي بالربيع العربي، سواء فيما يتعلّلق بانتقال الثورة من بلد إلى آخر أو فيما يَتعلّق بردّة الفعل الدموية الواسعة والمترابطة التي تعرّضَ لها. ولكنْ لنلاحظ، مع اعتماد ما يمكن أن أسميه التحفظ الخلدوني أوالنيوكانتي اللازمين، أن ردّات الفعل الدموية التي عانتْها ثورات 1848 لم تنجحْ في إغلاق باب التغيير إلا شكليا ومؤقتا. فانفجرتْ الشوارع من جديد بعد أقل من عقدين. وعموما الشيء المؤكّد بالنسبة لي هو أن الربيع العربي ْلم يقل بعده كلمته الأخيرة.

*  مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل