الأدب هو التحديق في النفس

أحد, 2017-01-01 19:37

أثناء تسلم الأديب الصيني الروائي المسرحي الرسام غاو شينغجيان جائزة نوبل لعام 2000، تكلم عن قوة الحياة المعاصرة وعن هشاشة الأديب، وقد حدد الأدب- في حفل التسليم هذا- بأنه (ببساطة، هو تحديق الإنسان في نفسه، وفي أثناء قيامه بذلك يبدأ خيط الوعي في النمو، ويلقي الضوء على هذه النفس) وإنه حقا لكذلك، فالأعمال الأدبية الرفيعة من كل العصور الإنسانية التي بحوزتنا، تنطوي ضمن ما تنطوي عليه من سمات أساسِ تميزها، تبلور الوعي الخلاق بالإنسان وحياته، في أطوارها وأدوارها وما يعتمل فيها من حركات ومظاهر وظواهر تؤسس لوعي الإنسان بذاته ولشرطه الإنساني الذي يحيا فيه. لقد عملت الثورات الأدبية الكبرى في القرن العشرين، على بلورة وعي الإنسان بالحياة التي تحف به في شموخه وسموقه، وفي انهياره واندحاره، ولما تزل هذه الثورات الأدبية في بدايات الألفية الثالثة ترنو إلى تحقيق الصنيع ذاته بما يجعل هذه الحياة مدركة. 
إن سعي الرواية إلى تمثيل الواقع، بكل محافل التمثيل التي تتوسلها، وبالاختلاف الكبير الذي نلفيه عند الروائيين الكبار، يكشف لنا مدى القدرة الخارقة التي يملكها هؤلاء الروائيون في بلورة الرؤى المختلفة حول الحياة المعاصرة. لا يملك الأدب – بكل أجناسه – إلا استبصار أغوار النفس الإنسانية، بما تحفل به من قيم متصارعة شبيهة بتصارع الإنسان للظفر بحقيقة الحياة في هذا الكون الهائل، الذي يقال لنا الآن، إنه أضحى قرية صغيرة، لأن سيطرة الإنسان بكل ما يملك من وسائل السيطرة، جعلت الكون، فيما يعتقده العلماء، في قبضة الإنسان. بيد أن الأدب وهو يلاحق بدأب حقيقة الحياة، يقول في الأعمال الأدبية الخالدة بأن ما نعرفه عن هذه الحقيقة – إلى الآن- لما يزل قليلا، لأن الحياة الإنسانية تتجدد باستمرار، وبتجددها تتجدد المعرفة الإنسانية. هذه المعرفة تظل دوما قليلة، خاصة إذا علمنا أن ازدياد المعرفة، يرينا أن العالم الذي نحيا فيه هو من السَعَة، إلى درجة نحتاج فيها إلى آماد طويلة لنعرف ما ينبغي معرفته، والحياة الإنسانية قصيرة، وما يعرفه الإنسان في هذه الحياة القصيرة لا يسعفه في إدراك كل ما ينبغي إدراكه في زمنه، حتى إن ورث عن أسلافه علوما ومعرفة واسعة. إن الأدب في ملاحقة حقيقة الإنسان وحده، يظفر بالقليل مما يلزم معرفته، يظفر بحقيقة النفس الإنسانية، ولعله لهذا يصح وسمه بالكاشف والمكتشف: كاشف النفس الإنسانية ومكتشف أغوارها وأبعادها العميقة النائية. 
تقدم الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والشعر معرفة دقيقة بما يعتمل في النفس وما يمور في أعماقها من نبض- ما أشبهه بنبض البندول في دقته وحسابه- دافق باستمرار دفق الحياة. إن اكتشاف الحقيقة هي السمة الأهم والأكثر رسوخا في الأدب. وعندما نقول النفس الإنسانية لا نعني بها المنزع النفسي في الأدب، بل إن الحياة كلها هي المقصودة بهذا الوسم، ولذلك فجميع مذاهب الأدب ومدارسه وتياراته تقع تحت هذا المسمى الكبير- مسمى حقيقة النفس الإنسانية، فكل ما يعمل الأديب على استجلائه وإظهاره وإبرازه في الحياة، إنما يحدد حقيقة النفس الإنسانية، النفس التواقة إلى معرفة الحقيقة، حقيقة الحياة في هذا الكون الهائل. وهذه الحقيقة هي الوجود الإنساني كله، وسيظل هذا الوجود موضوعا أبديا للأدب، مثلما سيظل مدار نشاطات الإنسان الأخرى في مختلف المجالات التي ينشغل بها الإنسان لإدراك حقيقة الحياة وحقيقة وجوده في هذه الحياة. على أن الأدب هو في الرهان- الأول والأخير- مما يجلو الإدراك الجمالي للحياة، ولهذا فهو تصوير للظروف الحقيقية للوجود الإنساني، إذ لم يستطع الإنسان حتى في المراحل الحرجة من حياته، أن ينسلخ عن هذا الإدراك، إذ بهذا الإدراك لشرطه الإنساني يحقق إنسانيته، بل يحقق وجوده الحضاري في العالم الذي يحيا فيه. 
إن ملازمة الأدب للحقيقة، هو ما يضفي على وجوده، مثلما على الوجود الإنساني كله، طابع القداسة الإنسانية، بما يعنيه ذلك من اهتمام بإنسانية الإنسان وكرامته وحقه في العدل والمساواة والحرية، إذ الوجود الإنساني قمين بالكتابة التي تواكب حياة الإنسان، وليس ترفا أن نرى في مجتمع، يحترم إنسانية الإنسان، هذه الحفاوة الكبيرة بالإبداعات الأدبية وبأصحابها، لأن الأدب علامة على نبوغ الإنسان في إدراك الحياة وفي تعمق كنهها وأسرارها وفي الرغبة في حيازة هذه الأسرار وكشفها بعد اكتشافها. والناس منساقون دوما إلى معرفة أسرار الحياة التي يحيونها، لا لقهر الصعاب وتجاوز معوقات النجاح حسب، بل إنهم يجدون في الأدب المتعة بعد الملاذ، والمسرة بعد القراءة. سيبقى الإنسان في سعي دائم ودائب لتأكيد جدارته بهذه الحياة التي يحياها وسيجد في الأدب ملاذه الذي يأويه وحارسه الذي يحميه، ولن يكون هذا إلا في ديار آمنة وأوطان آمنة أيضا، ومع ذلك فإن الأدب يلازم الإنسان في كل مكان، كيفما كانت الحياة في هذا المكان، لقد كان كثير من الجنود في الحربين العالميتين، يسجلون كل ما يمر بهم في ساحات الحروب، في دفاتر يحملونها في كل هذه الساحات.. إن الأدب لا يفارق الإنسان، لأنه، بكل بساطة يجلو حقيقة حياة هذا الإنسان. كتب جيمس جويس مرة: «أستطيع أن أحلل نفسي في أي وقت أشاء»، إنه لم يكتب هذا إلا بعدما خبر النفس الإنسانية في «صورة الفنان في شبابه» وفي «عوليس» وغيرهما.. في هذه الأعمال الروائية الانعطافية، حقق جيمس جويس للأدب ما كان في حاجة إليه، الوثبة الخلاقة في معرفة الإنسان بذاته، وهو ما أنجزه نجيب محفوظ في البيئة العربية، فلطالما كانت قصصه ورواياته مصاحبة للإنسان وأعماقه في هذه الحياة التي يحياها، وشكل نجيب محفوظ مدرسة بأدبه كله، مدرسة شاركه في بناء صرحها أدباء آخرون من الجيل السابق عليه، ومن مجايليه، بل حتى الذين جاؤوا بعده في بلده مصر، كما في البلدان العربية. والذين درسوا نجيب محفوظ وجدوا في أدبه فلسفة للحياة الإنسانية، هي فلسفة النفس الإنسانية في توقها وشوقها ورغباتها واستيهاماتها وصبواتها ومطامحها. يعمل الجيل الجديد من الأدباء، خاصة هؤلاء الذين انطلقوا في الكتابة الأدبية مع انطلاقة الألفية الثالثة على جلاء الحياة الجديدة التي جدت مع مطلع هذه الألفية، على أن هذه الحياة موشاة بما تتوشى به الحياة دائما: موشاة بالتوق الأبدي الإنساني الملازم للإنسان، توق الحقيقة، حقيقة الحياة ذاتها، ولذلك فمهما اختلفت رؤى وجماليات الكتابة الأدبية عند هؤلاء الأدباء الجدد فإن النزوع إلى الحقيقة الأبدية سيظل ملازما لهم مثلما لزم من سبقهم من الأدباء في العهود كلها، وهؤلاء الأدباء ملزمون بالجديد والجدة إن أرادوا حقا أن يكونوا أدباء جددا، بل إن ثورة الأدب على أيديهم هي ما يسوغ وجودهم ووجود الأدب دائما، ولا يمكن لهذا الوجود الأدبي أن يحقق نجاحه إلا إذا استطاع أن يظفر بحقيقة الوجود الإنساني- الذي من طبيعته التبدل والتغير، فهل يستطيع أن يبدل الأدب وسائله وتقنياته، وهو يواكب هذا التجدد، فيتجدد هو أيضا؟ وفي جميع الأحوال، لا نستطيع أن نحول حقيقة الأدب إلى مجرد تحليل دلالي، مهما كانت الإيديولوجيات التي تحكمنا، فجمالية الأدب، هي في النهاية، من جمالية الحقيقة التي نرنو إليها، وهي حقيقة وإن رقدت في أعماق النفس الإنسانية، فإنها عادة ما تسكن الهامات والذرى العالية. ألهذا سنظل دوما نرنو ونشرئب إلى الأدب؟
حقق غاو شينغجيان هذا التحديق إلى النفس الإنسانية في رائعته الروائية «جبل الروح»، وهي روح إنسانية في شرطها الوجودي، بما يحف به من أقدار ومصائر تقع كل يوم لا في الصين وحدها (بلد الكاتب)، بل في كل المجتمعات الإنسانية في هذا الكون الهائل الذي نحيا فيه، كأننا في قرية صغيرة نعرف ما يجري فيها يوميا، وما أكثر ما يجري فيها، مما يزيد ويرسخ معرفتنا بالحياة وبالأدب الذي يطور وعينا بهذه الحياة.

٭ قاص وناقد مغربي