القرية قديما وحديثا

اثنين, 2017-01-02 22:23

منذ سنوات طويلة، وفي بداية حياتي العملية، كنت أعمل في بلدة ريفية، في أقصى شرق السودان، ذهبت إليها كجزء من أداء الوظيفة الروتيني، الذي يستوجب قضاء عام كامل وأحيانا عامين، في أماكن ريفية بعيدة بعض الشيء، من أجل اكتساب الخبرات العملية، وطرق التعامل مع الحالات المرضية الحرجة منفردا، وبعيدا عن تغطية الزملاء الأكبر والأكثر خبرة، وأيضا التعود على اتخاذ القرارات في مكان لا توجد فيه شبكة للاتصالات، ولا يمكن أخذ رأي من أحد أو استشارة أحد في أي شيء، حتى مسألة الأكل الذي لم يكن جيدا ولا سلسا، ويؤكل فقط من أجل البقاء، والشرب الذي كان من آبار شبه مالحة، وتلك الأمور الإدارية الوعرة التي قد تضطرك لتوظيف عمال في المستشفى، بلا أي ضرورة، سوى قرابتهم بزعماء قبليين.
 وبالرغم من أن البلدة كانت تسمى مدينة في السجلات الحكومية الرسمية، وتحيط بها عشرات القرى الصغيرة، المتناثرة، إلا أنها لم تكن تشبه المدن كثيرا. كانت قرية، ممعنة في السمات الريفية، ليس فيها طرق معبدة، ولا بيوت فخمة، ولا سوق تجارية كبرى، ولا مطاعم فخمة، وحتى المستشفى الذي عملت فيه، وبالرغم من إنشائه لخدمة عشرات الآلاف من الناس، إلا أن سعته لم تكن هي المطلوبة، والخدمات فيه، يقدمها طبيب وحيد، وأحيانا طبيبان، مع طاقم تمريض مجتهد، وغرفة عمليات ليست مجهزة تماما، ولكن يمكن بقليل من الصبر، تذوقها، والاعتماد عليها خاصة في الحالات الحرجة، حين تصبح مسألة إنقاذ الحياة، أهم من ترف غرف العمليات الحديثة.
في اليوم التالي لوصولي لتلك البلدة، وبعد أن استلمت عملي، من زميلي الذي غادر مسرعا في اليوم نفسه، يبحث عن مستقبله في مكان أكثر رقيا وترفا، وتعرفي إلى عدد من الناس هناك مثل التجار وأصحاب المطاعم، وكبار المزارعين، ومعلمي المدرسة المتوسطة، الغرباء، وأثناء الليل، الذي كنت أقضيه ساهرا، مضطربا، طرق بابي أحد السكان، كان يخبرني بمرض والدته المفاجئ، وضرورة إسعافها سريعا ولا يمكن احضارها إلى المستشفى، على قدميها أو على ظهر دابة في بلدة، لا توجد فيها مواصلات عامة، وحقيقة لم تكن بحاجة لتلك المواصلات.
حملت حقيبتي وذهبت مع الرجل، نتخبط في الظلام، لأن العربة المخصصة للطبيب، لم ترض أن تعمل في ذلك الليل، حتى وصلنا إلى البيت الذي كان مجرد بيت في صف تتشابه بيوته بشكل مذهل، وفي الحقيقة كانت البيوت في البلدة، كلها بيتا واحدا في التصميم، ولا فرق يمكن ملاحظته أبدا في الشكل الخارجي، لكن ربما جاءت الفروقات في الداخل، حين تعثر على ثلاجة تعمل بالكيروسين عند أحد التجار، أو زعماء القبائل، وحين تعثر على تلفزيون، ربط إلى بطارية كبيرة، وحين تشاهد ترفا آخر في بعض الأماكن، ولا شيء غير القحط، في أماكن أخرى.
كانت الأم، راقدة على حصير من السعف الأخضر، وتحت رأسها وسادة، كانت تشكو من ضيق في التنفس، ناتج من ربو مزمن، يعاودها بين حين وآخر، خاصة في الأيام المتربة، في بلدة معظم أيامها متربة. وعلى ضوء فانوس شاحب، حقنتها بموسعات الشعب الهوائية، وأوصلت تنفسها المختنق بأنبوب صغير للأوكسجين أحضرته معي وكان الابن يحمله على ظهره.
كانت ثمة فتاة نحيلة موجودة هناك، تساعد الأم، وتمد يد العون إن احتجنا إليها، فتاة عادية لم أر ملامحها جيدا، ولا أحسست بأنها أكثر من فتاة في بيت فيه أم مريضة، وتسعى لمساعدتها، والاطمئنان عليها، فتاة لم أرها مرة أخرى قط، أو لعلي رأيتها ولم أنتبه إلى أنها تلك التي كانت في الليلة الشاحبة، موجودة في مشهد المرض والإسعاف، ولا شيء آخر.
صباح اليوم التالي، ومبكرا جدا، جاءني عدد من الذين تعرفت إليهم في يومي الأول، جلسوا في مكتبي بوجوه عابسة، وابتدأوا نصحي، وكان الموضوع الذي جاء بهم، هو ما أكده كثيرون كانوا يربضون في الليل والظلام، يراقبون الحياة السرية للأشياء، بأنهم شاهدوني أدخل بيتا، فيه امرأة جميلة وأقضى ليلتي فيه.
كان أمرا مدهشا بالفعل، لكنه يحدث، هكذا فهمت، والقرى البعيدة لها تقاليدها التي يظنها المدنيون، تقاليد جيدة ومتماسكة، وهي في الحقيقة تقاليد قائمة على الفراغ، وعدم وجود مواد متنوعة وفوارة، يمكن التسلية بها، وقضاء الوقت معها، ولذلك تجد من يراقب الطرق بحماس منقطع النظير، من يخصص وقته كله لاقتناص عورات الغرباء الزائرين من أطباء ومدرسين، وموظفين إداريين مساكين، جاءت بهم أقدارهم إلى تلك الأماكن النائية، وتعميمها على الملأ بعد ذلك، ومن يخترع النميمة، ويصدقها، ويسعى بها في القرية، لتصل إلى كل بيت. كان واجب الطبيب الليلي لإسعاف مريض، بناء على ذلك، واجبا عاطفيا أو لا أخلاقيا، استوجب النصح.
تذكرت هذه القصة، وأنا أتأمل حال العالم بعد ثورة الاتصالات الحديثة، وكيف أن تقاليد القرى المنهزمة بسبب التمدن، استلفها الفضاء الرحب وأصبحت هي تقاليده الأثيرة. وينبغي أن تصل إلى أبعد مدى، وللأسف تصل، لأن الانترنت، يصل إلى أبعد من خيال المتخيل. الآن كل شيء يكتب، يأتي من يحوره، ويمعن في تحويره، ويرسله إلى من يستهلكون السخف، ليستهلكوه. كل مادة جيدة، يلوكها البعض ويبصقونها، ويشوهون قلم من أنشأها، كل اقتراح مهم للحياة، هو سخافة عند البعض، من المتبطلين الذين يراقبون الطرق الالكترونية بلا أي ضرورة، ولا معنى، وكأن المفهوم، هو استغلال هذه القرية حتى النهاية، ونشر التقاليد المنهزمة بهذه الصورة.
في الماضي، كانت القرية الأرضية وعلى علاتها، ومهما انتشرت تقاليدها، لا تنتشر إلى أبعد من مسافة هي مسافة المشي بالأرجل أو على ظهور دواب بطيئة، وأذكر أن هناك وظيفة في القرى، في الشمال، كان اسمها: الصائح، وهو الشخص الذي يحمل أخبار الموت إلى الناس، كان يركب حماره من قرب الفجر، يمضي في شريط يضم قرى عديدة، فيها أقارب ومعارف للميت، يصيح أن فلانا ابن فلان، ابن فلانة، قد مات، وكان ذلك يكفي، فقط قرى ذلك الشريط تعرف. الآن يوجد صائح الكتروني، ينبئ بالجيد وغير الجيد من الأشياء ويستفز بشدة، حين يصيح بالعورات الحقيقية أو الكاذبة، أو المحورة للناس.
الشيء الأخير الذي لا بد من ذكره هنا، هو ضرورة أن يظل من ينتج، مستمرا في إنتاجه، غير ملتفت للصائح الضال الذي يطارده، وربما ينعيه قبل أن يموت حقيقة. ولو أن كل مطارد التفت إلى الوراء، وحمل حجرا الكترونيا، رماه في اتجاه من يطارده، لما كان ثمة وقت لأي إنتاج أو إبداع أو تطوير للذات.
 لنترك القرية الالكترونية تنضح بما تنضح به ونستمر.

أمير تاج السر
كاتب سوداني