المتحف الوطني الموريتاني: شاهد حي على حضارات قامت واندثرت في متاهات الصحراء الكبرى

اثنين, 2017-01-16 00:53

 ينقلك المتحف الوطني الموريتاني وأنت تتجول بين قاعاته إلى عوالم أخرى، إلى حضارات بادت لكنك تشاهدها حية على الرفوف وكأنها ما تزال تتنفس وجودها، وتتحرك حراكها.

يربطك هذا المتحف الحديث من حيث تأسيسه لكن القديم جدا من حيث محتوياته وكنوزه بماض سحيق، فهذه الآثار والكنوز ترسم أمام الزائر خريطة للحضارات التي تأسست في الصحراء الكبرى من تخوم مالي شرقا إلى سباسب الجزائر شمالا إلى مصبات نهر السنغال جنوبا إلى شطئان المحيط الأطلسي بحر الظلمات غربا.
تجد أمامك أدوات بدائية لكنها خالدة، لحضارات قامت وملأت دنياها ثم اندثرت لتترك آثارها ومقاومتها للطبيعة ماثلة حية.

تساؤلات وأسئلة

قبل دخولي للمتحف كنت أطيل التفكير فيما عسى أن يضمه متحف موريتانيا هذا البلد الصحراوي الذي لا يسمح مناخه وطبيعة تضاريسه القاحلة بقيام أي حضارة بشرية مستقرة، كنت أتساءل عما عسى أن يضمه هذا المتحف ؟ وعما عسى أن يكون بين جدرانه من آثار ومقتنيات؟
لكن سرعان ما أظهرت لي أجنحة المعرض المرتبة وما تحويه من مئات القطع الأثرية والصور عكس ما كنت أتصوره، فنتائج الاكتشافات والبحوث الأثرية التي نفذها خبراء موريتانيون وآخرون أجانب، على مدى سنوات طويلة، جعلت المتحف الوطني الموريتاني الذي تأسس عام 1972 يزخر بمأثورات غنية ويرسم في ذهن زائره صورة أخرى لأرض تعاقبت عليها حضارات وحضارات، وأظهر الإنسان الصحراوي فيها، رغم عداء الطبيعة، إبداعاته الرائعة.

البداية والتأسيس

أسس المتحف الوطني الموريتاني قبل أزيد من أربعة عقود، عندما نقلت قطع اثنوغرافية تخص المجال الموريتاني من مدينة سنلويس السنغالية حيث كانت محفوظة هناك ضمن مقتنيات المتحف العربي لافريقيا السوداء، إلى نواكشوط عاصمة موريتانيا.
وكانت عملية نقل هذه القطع بداية تأسيس متحف وطني يحتضن تاريخ وآثار وشواهد موريتانيا التي نالت استقلالها عن المستعمر الفرنسي في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1960.
ثم بذلت الدولة الوليدة جهودا لاستعادة قطعها الأثرية التي هرب بعضها وفقد بعضها الآخر في رحلة بحث وتأسيس استمرت قرابة 12 سنة وتوجت بإنشاء المتحف عام 1972.

مهمة صعبة

يضطلع المتحف الوطني الموريتاني للآثار القديمة والفنون ببنايته الشاهقة المحاذية للبرلمان بدور هام وبمهمة صعبة هي حفظ الموروث التاريخي والثقافي والاجتماعي لموريتانيا عبر العصور.
ويشتمل المتحف الذي هو من أغنى متاحف غرب افريقيا، على قطع وتحف تبرز مختلف الحضارات التي تعاقبت على موريتانيا منذ فجر التاريخ.
وترسم معروضات المتحف والمعلومات المدونة والملصقة أمام قاعاته تاريخ الحضارات التي سادت في موريتانيا وأثرت في شمال غرب افريقيا.
وتشير المعلومات المروية إلى تأثر هذه الحضارات بحضارة وادي النيل، وبرقة، كما تظهر حكم الفينيقيين والرومان الذين دخلوها حوالي 146 سنة ق.م واستوطنوا فيها المناطق الساحلية حتى تم طردهم من قبل الوندال في عام 428 ليتمكن منها البيزنطيون عام 534.

حضانات للتاريخ

تتجاور داخل بناية المتحف الوطني الموريتاني التي أبدعت إنجازها اليد الصينية الماهرة، مستهل السبعينيات، قاعات المتحف ومركز حماية المخطوطات الموريتانية والمكتبة الوطنية.
ويعرض المتحف عبر مدرجاته ومعارضه ورفوفه الظروف التي عاشها سكان موريتانيا عبر التاريخ، وذلك عبر القطع الأثرية الناطقة وآلاف الصور التي أخذت خلال عمليات التنقيب والاكتشاف.
وتركزت البحوث الأثرية التي جرت خلال العقود الخمسة الماضية والتي يتواصل بعضها حتى الآن عبر مهام موسمية، على مناطق كمبي صالح عاصمة مملكة غانا القديمة، ومدينة أوداغوست البوابة وهي التجارية لقوافل الصحراء الكبرى طيلة ستة قرون، وكذا على مستوى مدينة أزوكي الأثرية عاصمة دولة المرابطين.
ومن القطع الأثرية المهمة التي يحويها المتحف، قطع نادرة عثر عليها مسافرون وطنيون بالصدفة وسلموها لإدارة المتحف وهو ما يؤكد اهتمام الموريتانيين بتراثهم.

كنوز ومقتنيات

بعد الدخول من البوابة الكبرى للمتحف الواقعة جنوبا، تنفتح أمام الزائر قاعة كبرى مجهزة بوسائل الإضاءة ومهيأة للزيارات المفتوحة طيلة النهار للجميع من مختلف الأعمار وأمام المهنيين والأطفال والعائلات وأمام الباحثين والمتخصصين وغيرهم.
ويضم المتحف عدة أجنحة ومرافق قاعات عرض دائمة إحداها سفلية وتحتضن القطع الأثرية وتسمى قاعة الأركيولوجيا والتاريخ، والثانية الموجودة في الطابق العلوي مخصصة للقطع الأثنوغرافية، وتوجد قاعة أخرى للعروض المؤقتة وتقع في الطابق السلفي من البناية.
وتشمل الآثار الموجودة بالمتحف قطعا متنوعة من ضمنها قطع خزفية، وقطع حجرية، ومطاحن حجرية وسهام حجرية وحلي متنوعة الأشكال والعصور، أغلبها مكتشف بولايات آدرار وتكانت والحوض الشرقي ومناطق آوداغست وتامشكط.
وتنقسم القاعة السفلية للمتحف إلى ثلاثة أقسام هي قاعة العصر الحجري القديم، وقاعة العصر الحجري الحديث، وقاعة التاريخ.

أجنحة ومعارض

وتشتمل القاعة الأرضية للمتحف على موقع خاص مجهز بآلات الفن التشكيلي، ويعرض الفنانون التشكيليون الموريتانيون من هواة ومتخصصين رسومهم في قاعة كاملة التجهيز.
وبعد قاعة الاستقبال، تتفتح أمام الزائر الدواليب الزجاجية الشفافية التي تحتضن القطع الأثرية وأول ما يصادفه دولاب يحوي مكتبة العلامة الموريتاني الشيخ سيديا الكبير وهي عبارة عن خزنة متنقلة كان الشيخ سيديا يحمل فيها كتبه ومراجعه، وإلى جانب هذه المكتبة مؤلفات العالم الموريتاني الشهير الشيخ محمد سالم ولد عدود، وغير بعيد من ذلك يمتع الزائر نظره بمعرض كبير لنماذج من الأدوات الموسيقية الموريتانية: فهناك آلة «آردين» وآلة «التدنيت» وهي القيثارة المحلية الموريتانية، وبجانبها الطبل الكبير، وغير بعيد من ذلك نايات مختلفة الأحجام.
ومن أحسن ما يصادفه الزائر هذه الصورة المجسدة لعروس موريتانية ترتدي الثوب التقليدي المسمى بـ« الملحفة» ذات اللون الأسود، فعادة الموريتانيين في أعراسهم لبس السواد وهي عادة تخالف عادات الشعوب الأخرى التي تفضل اللباس الأبيض، ويعتقد البعض أن تزيي الموريتانيات في أعراسهن، بالسواد مسحة شيعية مترسخة هنا.
وبالتقدم إلى قاعات أخرى تطالع الزائر، منحوتات عجيبة ورسوم تشكيلية رائعة تعرفه في مختلف جوانب التراث الموريتاني الأصيل.

محابر ومخطوطات

وتتالى معارض المخطوطات الإسلامية القديمة في قاعات المتحف ومعظمها شروح مخطوطة لمختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي، ومخطوطات لكتاب الغزوات النبوية للبدوي وهو مؤرخ موريتاني شهير.
وتتراءى إلى جانب المخطوطات محابر محفورة في الحجر وأقلام خيزران كان العلماء والطلاب الموريتانيون يستخدمونها في الزمن القديم.
صادف مروري بالمتحف جولة داخل أروقة المتحف يقوم بها باحث نشط اسمه سيدي عالي فأكد لي معجبا بالمحتويات المعروضة «هذا موقع تراثي هام، إنه المرآة العاكسة لحضارتنا وتاريخنا قبل وبعد الاستقلال».

جرار ورسوم

يلاحظ زائر المتحف تفصيلا ما بين الآثار المكتشفة في كل منطقة وهو ما يبرز تنوع الآثار وتعددها وانصهارها مع ذلك في بوتقة جغرافية وثقافية واحدة؛ فهنا الشباك في كمبي صالح أقصى الشرق الموريتاني وهناك قطع الخزف في منطقة المذرذرة جنوبا، وهنالك جرار آوداغست.
وما يلفت نظر الزائر صور الفيضان الذي تعرضت له العاصمة نواكشوط عام 1932 وصور لمقبرة عين النوص الأثرية بعظام موتاها المتناثرة ورجالها الأموات وهم يرتدون حليهم، إلى جانب قطع خزفية كثيرة ومتنوعة الأحجام والاستخدام، وإلى جانب ذلك سيوف وسكاكين وقسي ورماح وأدوات تقليدية للقتال والحروب.

الترابط بين الأجيال

يقول الباحثان الموريتانيان ولد الشيخ ولد شماد خبير وباحث في مجال المتاحف والتراث لالة بنت ابراهيم السالم وألفا في دراسة مشتركة عن الآثار الموريتانية «أن المتحف الوطني الموريتاني يحوي أدوات لم تعد موجودة وأخرى نادرة تمثل كل شرائح المجتمع على الرغم من صعوبة جمع كل هذه الثقافات في مكان واحد بسبب اختلافها».
«ولعل من أبرز الأدوار التي يقوم بها المتحف الوطني، تضيف الدراسة، عرض هذه القطع النادرة والتي تنتمي إلى عقود غابرة (أدوات، وأوان، وأغراض، وآلات، وقطع…الخ)، ليكتشفها الزوار وخاصة الأجيال الجديدة من التلاميذ والطلاب حيث تقدم لهم شروح علمية وافية عن كيفية عملها وعن أثاثها سواء الخشبي أو الزجاجي أو المعدني وعلبها وكلمات لها وأسماء ومسميات معظمها لم يعد متداولا وتجهلها معظم الأجيال الجديدة، وإذ يكتشفونها يستعيدون صفحات غابرة من هويتهم كانت ستغيب عنهم».
ويضيف الباحثان «إذا كان هذا المتحف يصنفه البعض من ضمن المتاحف الصغيرة فهو كبير بما يقدمه من غنى سياحي وثقافي وتراثي يثري ذهن الزوار وذاكرتهم الجماعية، والمتحف الوطني الموريتاني ليس، كما يتخيل البعض متحفا جامدا للأمور القديمة المحنطة إن جاز التعبير (تاريخية أو أثرية أو فنون جميلة) بل هو واحة حياتية ثقافية تثقيفية ذات ارتباط قوي وعضوي بالمجتمع الموريتاني بمختلف أطيافه، ويسعى لخدمة هذا المجتمع الذي يرى فيه تفاصيل نابضة من حياته اليومية وتاريخه وتراثه الحي».
ويعتبر المتحف الوطني، حسب الدراسة، قناة معبرة عن اللون الثقافي المختلط والموحد في آن واحد وهو وسيلة إيصال الثقافة الموريتانية إلى العالم وفي الوقت نفسه فهو نافذة يطل منها العالم على موريتانيا وعلى خصوصيتها وموروثها التاريخي الغني والمتنوع.

متاحف في الولايات

مامدو هاديا المدير العام للمكتب الوطني للمتاحف قال «أن المتاحف ظلت الإطار الأمثل لحفظ وصيانة الكنوز والآثار القديمة التي يتم اقتناؤها أو اكتشافها عن طريق الأبحاث والحفريات في كل دولة على حدة، وذلك حسب وسائلها المادية والفنية وقدرة الكادر البشري المتخصص في البحث عن تلك الآثار».
وأكد «أن المتحف الوطني فقد الكثير من الآثار والكنوز التي كانت محفوظة فيه بسبب الإهمال وعدم الوعي لدى المواطنين لأهمية هذه الآثار».
وقال في توضيحات أمام مجموعة من الزوار «أن السلطات في موريتانيا أدركت أهمية المحافظة على الكنوز والآثار بشكليها المادي والمعنوي من خلال إقامة مؤسسة المكتب الوطني للمتاحف التي عهد إليها بتأسيس متاحف متخصصة في جميع عواصم الولايات مع مراعاة البعد الثقافي والاقتصادي لكل لولاية».

متحف أتويزكت

وإضافة للمتحف الوطني في نواكشوط، تعمل السلطات على تطوير متحف «أتويزكت» الأثري الذي يقع بمنطقة آدرار شمال موريتانيا، وهي المنطقة الحاضنة للحضارات القديمة، حيث تضم مدينتي «شنقيط» و«وادان» وهما من المدن المصنفة ضمن التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو.
ويقع متحف «أتويزكت» الأثري على بعد 13 ميلا شمال مدينة «أطار» العاصمة الإدارية لولاية «آدرار» وأنشئ هذا المتحف في عام 2005 على يد أحد أبناء المنطقة لجمع وحفظ ما أمكن من آثار تاريخية وتقديمه للأجيال.
ويؤكد الخليل ولد انتهاه، محافظ المتحف «إن متحف أتويزكت يضم حاليا ما يقارب 6000 قطعة أثرية منها ما هو قديم من العصر الحجري وما هو حديث، وتشمل هذه القطع أدوات حجرية ومخطوطات قديمة من بينها 100 كتاب تزخر بنوادر الثقافة في شتى فنون المعرفة، وأدوات منزلية قديمة وأخرى كان يستخدمها الإنسان الموريتاني في بيئته البدوية، إلى جانب عملات وطوابع بريدية».
ومن بين محتويات المتحف حلي النساء، وميداليات عسكرية وبنادق وقبعات، منها قبعة الجنرال الفرنسي كورو، وعملات موريتانية ابتداء بالفرنك الإفريقي وحتى العملة الحالية (الأوقية) وطوابع بريدية وصور نادرة للرؤساء والقادة.
كما يشمل المعرض مقتنيات متعددة عن الجيولوجيا الموريتانية من بينها أشكال المعادن وأنواع الصخور، إضافة إلى أجهزة إذاعية قديمة.

عبد الله مولود

نواكشوط ـ «القدس العربي»