لحظة الارتطام بالحرية: لم أسكن السجن يوماً، ولكنه سكنني دوماً…

أربعاء, 2014-06-11 13:58

عرفت أبي بين جدرانه وظننت وأنا طفلة أنه مكان اللقاء بالآباء، ورغم بؤس المكان وقسوته إلا أن خصوصيته كانت في كونه مكان أبي، أو المكان الذي فارق فيه حياتنا العائلية المشتركة وأقام فيه مُرغماً. مكان يمكن تشبيهه بالقبر الذي تنتهي فيه حياة من نحب، ولكننا لا نتوقف عن زيارته كلما أصابنا الشوق والحنين إلى أحبتنا الغائبين فيه.
توقفت عن زيارة السجن كحيز مكاني منذ وفاة أبي، لكنني لا أتوقف عن زيارة السجن كفكرة ورمز في كل يوم، ولا أتوقف عن تعقب ظل أبي وتفاصيل المكان في قصص السجناء الباقين على قيد الحياة.
هذا القبر المظلم، «الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود»، لا يعود الأموات ليرووا لنا عن ما بعد الحياة، غير أن الناجين من موت السجون عادوا ورووا عن لحظات يتخدر فيها الجسد من حدة الألم، وعن خصلة شعر حبيبة عالقة في كتاب، يتمسك بها السجين العاشق وكأنه يتمسك بحبل الحياة.
وبين الموت المجازي في داخل السجن والحياة خارجه، هناك اللحظة التي ترتطم بها الروح بالحرية، ليست ملامسة بل ارتطاماً وارتجاجاً يصيب الجسد والروح بعد فترة العزلة والموت السريري في السجن.
هذه اللحظة لطالما شدتني وأرعبتني في آن واحد، ولطالما تساءلت عن شعور القادمين من الجحيم، وعن كيفية تعايشهم مع الحياة بعد أن ُطمر العمر في الأقبية والزنازين.
ما زلت أذكر عندما اتصل أبي بالهاتف ليخبرني أنه في الطريق من المعتقل إلى البيت، حينها لم أنطق إلا بسؤال ساذج، إن كان ما زال يذكر طريق البيت. وبعدها بدأت أدور حول نفسي وأقوم بأعمال تنظيف وترتيب بلا معنى، محاولةً أن أملأ فراغ الانتظار، ربما استمر هذا الفراغ ساعة أو ساعتين ولكنه في الحقيقة فراغ العمر كله.
عندما دخل أبي بيتنا كان كالغريب لا يجرؤ على ملامسة الغياب. وصل إلى الشرفة كآخر حدود الحرية الممكنة، ومن هناك وقف مذهولاً أمام الجبل الأقرع وقد اكتسى بأشجار عالية ترتفع أمتاراً، قاس بها سنوات الاعتقال.
وجه أبي وذهوله أمام ارتفاع الأشجار وكثافة أوراقها، تشبه معظم حكايات المعتقلين عند خروجهم من السجن، رغم اختلاف تفاصيلها. فغالباً ما يفتقد السجين صوت العصفور ورائحة الوردة وانحناء الغصن قرب النافذة. 
هذه الأشياء التي نعتادها وننسى أن نتبارك بجمالها، هي الأشياء الأولى التي يراها السجين عند خروجه، ويبتسم كطفل صغير للهواء الذي يداعب وجهه وكأنه يتذكر تقاطيعه. فالهواء لا يفقد طعمه ولا رائحته بعد طول غياب، أما الناس والشوارع والأشجار والمباني فكلها تكبر وتتسع وتتطاول ولا تبقى على حالتها الأولى.
كثيراً ما يخرج المعتقل بثيابه القديمة التي تعود لسنوات طويلة قبل الاعتقال، يفاجئه تغير الموضة واختلاف الثياب التي يرتديها الناس من حوله ويشعر أنها غريبة، ويشعر وكأنه قادم من زمنٍ غابرٍ.
روى الكثير من المعتقلين عن ضياعهم في شوارع مدنهم، وروى آخرون عن صدمتهم الأولى ساعة إخلاء سبيلهم، من أسعار سيارات الأجرة والحافلات، التي كان من المفترض أن تقودهم إلى بيوت أضاعوا طرقاتها.
فقد حكى لي صديق، أمضى أكثر من عشر سنوات معتقلاً، عن استغرابه يوم خروجه من السجن من ارتفاع أجرة سيارة الأجرة واستغرابه الأكبر عندما أشار السائق إلى عداد الأجرة. فهو لم يكن يعرف معنى العداد ولم يكن رآه قبل الاعتقال.
هكذا تحيل عزلة السجن ضحاياها إلى «سكان الكهف»، وتصيب أرواحهم بعطب وجرح لا شفاء منهما، تكشفه أحياناً حركة أو كلمة أو دمعة خارجة عن المألوف.
أتذكر في هذا السياق معتقلا سوريا سابقا عند وصوله لأوروبا أول مرة، بعد أن منع من السفر لسنوات.
كان يقف حائراً أمام بوابة الدخول لمحطة القطار، عاجزاً رغم ذكائه الحاد من أن يفك سر الدخول إلى المحطة. ظل واقفاً لدقائق يراقب الآخرين كيف يعبرون الباب بسلام. حاول أن يخبط الباب بيديه ثم بقدميه، كما اعتاد أن يفعل أمام باب الزنزانة، وبعد محاولات كثيرة فاشلة اكتشف أن السر في بطاقة صغيرة تبتلعها البوابة لتفتح على مصراعيها. الابتسامة الشاحبة على وجهه بعدها كانت تقول:
كم غبنا في سجن الأسد وكم مشت الحياة من دوننا ولم تنتظرنا.
عندما استدار ومضى محتضناً بطاقته، رأيته يمشي كطفل يكتشف للمرة الأولى حلاوة السير بحرية، بعد أن كان يحبو على أربع في سجن الدكتاتورية الكبير. 
هذا السجين الخارج من سورية، واقفاً أمام بوابة الدخول إلى العالم المتقدم الحر…
وأبي خارجاً من سجن «الأسد الأب»، وواقفاً على الشرفة ينظر للأشجار التي كبرت في انتظاره…. 
ونحن «السوريين»، واقفين على بوابة الخروج من سجن «سورية الأسد» الكبير، والدخول إلى سورية الحرة الديمقراطية…
ثلاثة مشاهد مختلفة في الزمان والمكان ولكنها جميعها تجسد لحظة استثنائية ومفصلية في الحياة، لحظة ولادة الإنسان الحقيقية وارتطامه بالحرية، هي لحظة موجعة وأليمة ولكن لا مفر من اجتيازها للوصول للحرية.

*كاتبة سورية

آية الاتاسي