هوامش على حرب غزة !/امحمد ولد أمين

جمعة, 2014-07-25 18:11

خلال هذه الصفحة الجديدة من الصراع الدامي على ارض فلسطين يبدو واضحا للعين المجردة وجود خمس ملاحظات يتعجل الكثيرون عن معاينتها ...وهي الملاحظات التي سيكون لها اثر كبير على مستقبل هذا الصراع المعقد والطويل .

تتلخص هذه الملاحظات في ما اسميه بالمقلب التكنولوجي لاسرائيل ...ظهور الدول الأمم في الوطن العربي بشكل نهائي وحاسم ..ضرورة العودة للمصالحة الفلسطينية ..حتمية الحوار العربي الاسرائيلي ....وحتمية تخلي الغرب عن اسرائيل !

اظن بل اعتقد ان هذه النقاط الخمس ستلقي بظلالها في السنوات المقبلة على الحياة بالشرق الأوسط وعلى العالم ولذلك فانا متفائل جدا حول النهاية الشكسبيرية لهذه الماساة الطويلة والتي نقترب من فصولها الختامية .

المقلب التكنولوجي الإسرائيلي !

ليس خافيا على احد ان السبب الرئيس للهيمنة الإسرائيلية على فلسطين مذ بدايات القرن المنصرم كان في الأساس هيمنة علمية وتكنولوجية وهي في حقيقة أمرها امتداد للاستعمار الأوروبي... والاستعمار ناتج عن فداحة الهوة بين الطرفين ! اليهودي المستوطن شخص أوروبي في لغته وتعليمه وحضارته والعربي إنسان شرقي ضعيف التعليم وقليل الدربة على الصناعة وروح العصر هذا المعطى تغير بشكل كبير في المنطقة ولأسباب كونية عديدة ..أولها ان الاحتكار الأوربي للتقانة والعلوم ولى وللأبد فنهضة آسيا التي بدأت في اليابان تواصلت وتمددت حتى وصلت الشرق الأوسط ! صورايخ لبنان بالأمس...وصواريخ عزة اليوم دقت عدة مسامير في تابوت المكننة الغربية العريقة لأنها تقدم حلولا لمشكلة توازن الرعب مع الطيران الذي كان ومازال السبب الأكبر لصمود إسرائيل.

صواريخ غزة وطائراتها البدائية تشكل تحديا غير قابل للحل ولا للتراجع فقوتها في بساطتها وكلفتها المتدنية وهي قابلة للتطوير والتكثيف وسيكون لها شان في أي مواجهة مقبلة. لقد اخفت اسرائيل حقيقة هذه الصواريخ التي جعلت ملايين الناس يختبئون تحت الأرض وسوف تظهر الايام ان هذه القذائف مع قليل من تحسن الاداء ومزيد من الدقة كافية لمعادلة جديدة تجعل الشروع في قتل الفلسطينين امرا مكلفا وغير ممكن ! هذا هو المقلب التكنولوجي الجديد وهو نتاج ما اسماه صموئيل هتنغتون بالتحالف الكونفيشيوسي الاسلامي .

وهي ظاهرة عالمية تلغي الغطرسة السخيفة التي تميز بها تعامل الغرب مع سكان الشرق والجنوب ..ولنا ان نتصور ماذا سيكون الوضع لو استطاع اهل غزة حرق الكنيست الاسرائيلي او مفاعل ديمونة بهذه القذائف المطردة التحسن والمتصاعدة الكثافة! لا يوجد مكان آمن باسرائيل بعد اليوم وليس بمقدور اسرائيل ان تفعل فوق ما فعلت .

تكنولوجيا تحول مركز الثقل شرقا هناك حيث لا يوجد شتات يهودي وحيث لا توجد قيمة عاطفية لاسرائيل فأهل آسيا لا يحسون بأي عقدة ذنب جراء اشويتز وغير اشويتز.. فتلك قصص اوروبية لا تعنى أي شيء لصناعيي الصين والهند وفارس ! في مواجهة الفلسطينيين لا ينفع إسرائيل سلاحها النووي الذي لا يمكن استخدامه في الحديقة المجاورة لإسرائيل وهكذا يصبح من البين ان الفلسطينيين وحدهم وبمساعدات بسيطة من الجوار العربي قادرون على تغيير المعادلة على الأرض وتحويل إسرائيل لبلد طارد! انهم وحدهم ودون أي تدخل أجنبي يستطيعون دفع سكان إسرائيل لصرف النظر عن فكرة الوطن المقدس لليهود وحدهم ....ومن الممكن ساعتها الشروع في عملية سلام عاقلة ومفيدة وحتمية. الأمم العربية ! يبدو ان انتصار القطرية العربية صار أمرا محسوما ...فجل الدول العربية أصبحت لا تتحرج من التهرب الكامل من أي تورط في المسألة الفلسطينية بل فيها من لا يخفي مشاعره الودية تجاه اسرائيل ! في الحقيقة ورغم كل الشحن القومي والديني ظلت الدولة الامة حقيقة صلبة ..وظلت الحكومات منشغلة بمصالحها الظرفية فقط.

المعطى الجديد هو تقبل المجتمعات لهذا الطرح الضيق والاناني وانا لا اعتبره بالضرورة سيئا من الناحية النظرية فمن الممكن ان تلعب مصر مثلا دورا كبيرا في اضعاف اسرائيل وابتزازها عبر التغاضي عن تفاقم التسلح لدى حركة حماس بغزة وهو امر سهل جدا ووارد لو قامت حكومة الجنرال السيسي بالتفريق الذهني بين حربها مع اخوان مصر.. واخوان العالم كما هو حال الدول الطبيعية التي لا تخلط شؤونها الداخلية بقضايا خارجية وهو أمر سبق وحصل ايام مواجهة عبد الناصر مع الشيوعيين في مصر رغم التحالف الوثيق مع الاتحاد السوفييتي. القطرية العربية تلقي بكرة فلسطين الملتهبة بين ايدي الفلسطينيين لكن عليها ايضا ان تقف على الأقل في الحياد الكامل تجاههم وذلك بعدم مساعدة اسرائيل عليهم وعدم حراسة حدود اسرائيل تماما كما كان المغاربة يفعلون بفرنسا على ايام حرب الجزائر...وكما كانت الدول الافريقية تفعل تجاه جنوب افريقيا العنصرية ! الحياد الايجابي لوحده أصبح كافيا ليغير الفلسطينيون توازن القوة على الأرض ! من جهة أخرى لا يتوقف بروز الدولة الأمة في البلدان العربية على مصر والأردن بل يتجسد في مواقف سورية ولبنان ومراقبتهما الحذرة للأحداث ويحمل هذا المعطى الجديد حقيقة كبرى مفادها ان جل العرب بل كل العرب يتقبلون دولة إسرائيل ويعترفون بها كجسم مسلم به في الخريطة الدائمة للمنطقة وهذا في حد ذاته يجب ان يساعد في تحضير الأرضية النفسية لتصالح كامل ونهائي بين إسرائيل والأمم العربية وهو تصالح سيؤدي لو توافر قليل من الحظ لدمج إسرائيل في المجموعة العربية بشكل سلس ومقبول.. خصوصا ان إسرائيل بلد عربي في الأساس حيث يشكل العرب من اليهود ومن المسلمين والمسيحيين أغلبية معتبرة . ضرورة التصالح الفلسطيني لم يكن من المالوف ان تنتصر حركة حماس في أي انتخابات فلسطينية فوجود اقلية مسيحية كان يكفي لحسم أي تنافس بين فتح وحماس لصالح الأولى لكن عجز حركة فتح عن حسم أي ملف من الملفات العالقة أفرز هذه الحالة الاستثنائية . أعتقد ان في فتح من يستطيع ان يعوض زخم وكاريزما الزعيم عرفات وهو بدون تردد شخص الزعيم مأمون البرغوثي ولا أحد غيره.. فلو تكرم قادة فتح بإعادة الاعتبار له وانتخبوه بإجماع مباغت زعيما لهم سيكون بمقدوره ان يعيد لمنظمة التحرير هيبتها المفقودة . التاريخ علمنا في حالة الجزائر وجنوب افريقيا ان افضل مفاوض هو ذلك الموجود في الزنزانة وهو وحده من يمكن ان يعقد عليه إجماع وطني فلسطيني خصوصا انه لم لم يتلوث بدماء وخلافات الفلسطينيين. لقد حان الوقت لهكذا مصالحة فلسطينية فحماس المحاصرة مستعدة لتنازلات كبرى وعلى حركة فتح وعلى ابو مازن ان يبتلع الكثير من غروره الشخصي ليخرج القضية من هذه المتاهة الداخلية المؤسفة. حتمية الحوار العربي الإسرائيلي من كل النقاط العالقة تبقى نقطة المهجرين وحق العودة هي اكثر النقاط الخلافية ضراوة بين العرب واليهود خلال كل نقاشات ومفاوضات المسألة الفلسطينية . اسرائيل لن تقبل ان يتحول اليهود لأقلية داخل الدولة العبرية ولا يخفى على أي مهتم بالتاريخ ان سبب تخلي باريس عن مطالبات المستوطنين الفرنسيين ببقاء الجزائر فرنسية هو خوف فرنسا ان يجلس قرابة مائة نائب عربي في الجمعية الوطنية الفرنسية ! ظهرت ايضا في اسرائيل دعاوى قانونية جديدة حول أملاك اليهود المهجرين من مصر والعراق... بغية وضعها على طاولة أي مفاوضات مستقبلية . الحل الممكن والمنطقي هو تعويضات مالية معتبرة لضحايا التهجير الفلسطينيين وتجنيسهم في دول الهجرة والسماح لهم بحق العودة لدولة فلسطين وبذلك تبرم اتفاقية على أساس غير عادل لكنه مقبول وقابل للحياة.. في المصالحات التاريخية لا بد من تنازلات مؤلمة لكل الأطراف! على اسرائيل من جانبها ان تتنازل عن كل صحراء النقب كي يتواصل سكان غزة بالضفة الغربية جغرافيا وان تتنازل عن سيطرتها على مدينة القدس وممراتها نحو رام الله . على اسرائيل ان تفهم ان المسار التاريخي للأحداث ليس لصالحها وانها اليوم مدينة ببقائها وجوديا لحسن نية الجوار العربي! فمن كان يصدق انه سيصبح بمقدور مصر وحتى الأردن تفخيخ كل المنطقة وتحويل الحياة داخل اسرائيل لجحيم لا يطاق! الاستشراف المنقوص وأساطير الغرور الإسرائيلي المبنية على التضامن الأمريكي والغربي يجب ان لا تمنع العقلاء هناك من الرؤية الجيدة لمتغيرات العالم وتقلباته الحثيثة. حتمية تخلي الغرب عن إسرائيل ! يعرف أهل الدراية وعلماء التاريخ ان الغرب سيتخلى عن إسرائيل ذات يوم وهو يوم بات وشيكا جدا ! الماكينة الإعلامية اليهودية وإدارة عقد الذنب من الفظا عات الهتلرية استنزفت بدرجة كبيرة وكيف لا يرى يهود اسرائيل هذه الحقيقة ؟ كيف لا يتذكرون تخلي بريطانيا عن هونغ كونغ وتملص امريكا من طغمة الابارتايد في جنوب افريقيا ! كيف لا يتذكرون المارد النائم المسمى بمعاداة النازية ؟ كيف لم يفهموا تملص امريكا من شن حرب ضد ايران رغم كل الجهود الاسرائيلية والعربية ؟ في أي مواجهة جدية بين العرب الفلسطينينين مدعومين من دول الجوار سيتخلى الغرب برمته عن إسرائيل لأنه بكل بساطة لا يستطيع ان يعطي فوق ما أعطى ! فرغم قوة الشتات اليهودي وتنوعه تبقى الدول دولا مهتمة بمصالحها الخاصة والقفز فوق هذه الحقيقة دائما وأبدا سيؤدي للوقوع في فخاخ التاريخ العديدة ! على العقل الاستراتيجي الاسرائيلي ان يفكر وباستباقية تليق بذكاء أحبار اليهود عن ماذا يمكن ان تفعل امريكا او فرنسا لو قرر رئيس مصر وملك الاردن ان يسمحا بتسليح حركات التحرير الفلسطينية المختلفة بصواريخ ومعدات مستوحاة من تجارب حزب الله وغزة ؟ هل بمقدور أمريكا ان تفعل بهما أكثر مما فعلت بإيران وسورية حين سلحا حزب الله ؟

أجوبة كل هذه الأسئلة يجب ان تدفع بالعقل الاستراتيجي هناك للتواضع والجدية ! لقد انتهى زمن الانتصارات السهلة ولذلك وجب التخلي عن حالة الغرور المستديم التي تمنع هذه الدولة الغريبة من أي مصالحة جدية ونهائية ومنطقية. لهذه الأسباب أجد نفسي متفائلا حول مستقبل السلام في تلك البقعة المباركة...وأتوقع نهاية شكسبيرية لهذه المأساة الطويلة والمفجعة...نهاية مريحة دون منتصر ودون مهزوم. الكرة مازالت في مضارب اليهود.. لكنها لن تبق هناك دائما ! إنهاء الدردشة