لاتزال ملاحظاته الفلسفية صالحة لتحرير الإشتراكية من قيودها المذهبية

خميس, 2014-07-31 17:46

إِيرْنِيسْتُو تْشِي غِيفَارَا هذا الرّجل الأسطورة الذي غدا رمزا للكفاح، والتمردّ، والانتفاض في وجه الظلم، والتظلّم في مختلف أنحاء المعمورة، كان مقتنعا بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع وبقاع العالم الثالث، وهكذا أسّس جماعات، وخلق حركات عصيان ومواجهة ،وزرع بؤرَ حرب العصابات في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وبتعاون مع الجيش البوليفي، ووكالة الاستخبارات الأمريكية تمّ نصب كمين له في بوليفيا، حيث قتل في التاسع من شهر أكتوبر 1967.
أُلْحِقَتْ بشخصية تشي غيفارا صفتان تقومان على طرفيْ نقيض،وخَلَقَتْ لدى الرأي العام العالمي اتجاهين إثنين، فمن جهة أصبح غيفارا لدى الكثيرين رمزا للثورة ،والتمرّد في مختلف أرجاء الممعمورضد الظلم، والتفاوت الطبقي، والإجتماعي فأصبح إسمه يُقرن بالطبقات الكادحة، والفئات المقهورة والعسيفة، في حين يعتبره آخرون مجرمَ حروب، تقع على عاتقة تهمة إقترافه للعديد من عمليات ا لتقتيل الجماعي في مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص في أمريكا الجنوبية، وبعض بلدان أفريقيا.
لقد أصبحت صورته الشهيرة التي كان قد التقطها له المصوّر «ألْبِرْتُو كُورْدَا» واحدةً من الصّور الأكثر شهرةً في العالم على الإطلاق، كما أنّها تعتبرواحدةً من الصّور الأكثر استنساخا، وانتشارا في العالم في كلتا أشكالها الأصلية ومتغيّراتها، حيث إستعملت في العديد من التجمّعات، والتظاهرات، والمسيرات، والإحتجاجات السياسية، والنقابية، والعمّالية، والاجتماعية، وسواها، كما أنها استغلّت من جهة أخرى في عالم الإشهار، والدعايات، والإعلانات، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر أيقونات رموز الحركات المتمرّدة ،والثائرة، والمضادّة في العاالم. 
لتشي غيفارا كتاب يحمل عنوان»ملاحظات فلسفية». وهي عبارة عن مخطوطات، وملاحظات، ومذكرات،ومراسلات، وخواطر، وآراء،وأفكار، وتعاليق، وحواش فلسفية، وتأمّلات نظرية قامت بجمعها، وتصنيفها الباحثة الجامعية الكوبية «ماريا ديل الكارمن أرييت» وكان قد كتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا، يعالج غيفارا في هذه الملاحظات، والخواطر العديدَ من القضايا والمواضيع الهامّة التي كانت تستأثر باهتمامه، وتُشغل باله في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، وفي طليعتها الفلسفة الماركسية حيث كان يقوم في كلّ مناسبة، أو كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة، وتحليل،وتمحيص، وانتقاد أعمال المفكرين الكلاسيكيين من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنى كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكرين الذين كان تشي غيفارا يعتبرهم اشتراكيين هراطقة، أو مارقين، أو رجعيّين .
بيْن غِيفَارَا وَهِيغَل..
كان تشي غيفارا قد وجّه عام 1965 رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي «أَرْمَانْدُو إنْرِيكِي هَارْتْ» الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا في «تنزانيا» بعد فشل الثورة في الكونغو. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا كتب في ذلك الإبّان يقول: «لقد حشرتُ أنفي- بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات- في عالم الفلسفة ،الشيء الذي كنت أنوى القيام به منذ مدّة بعيدة، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني في هذا الصدد هو أنه في كوبا لم يُنشرشئ يُذكر، أو ذات أهمية حول هذا الموضوع ،بإستثناء بعض المراجع السّوفياتية التي لا تشجّع، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً للتفكير والتأمّل، ذلك أنّ «الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك في ذلك، وأنت ما عليك سوى التسيير والإنصياع «. ويضيف غيفارا بلغة مبطّنة بغير قليل من السخرية والتهكّم والازدراء قائلا: «كمذهب يبدو في الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماركيسية، وأكثر من ذلك فإنهم في كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والمتاعبَ، والضررَ، والمضايقات».
أما العرقلة الثانية التي واجهتني- يقول غيفارا- «فهي ليست أقلّ أهميّةً من سابقتها، إنها عدم معرفتي للّغة الفلسفية، لقد تصارعتُ بكلّ ما أوتيتُ من قوّة وضراوة مع المُعلّم «هيغل» ولكنّه لم يُمهلني طويلا، إذ في الجولة الأولى أوقعني وطرحني الأرض مرّتين».
المحارب الثوري الارجنتيني- الكوبي كان شديد الإنتقاد في ذلك الأوان كذلك لخطط ومشاريع تلقين الفلسفة في النظام التعليمي للاحاد السوفييتي آنذاك،كان قد اقترح على «أرماندو إنريكي هارت» الذي كان قد تمّ تعيينه سكرتيراً عاما لمنظمة الحزب الشيوعي الكوبي أن يعمل على إعداد برنامج جديد لدراسة الفلسفة في كوبا، يقول له في هذا الصدد: «لقد أعددْتُ برنامجاً دراسياً خاصّاً بي يمكن دراسته، وتحليله، وتحسينه لوضع لبنة أولى لبناء مدرسة حقيقية للتفكير»، ويعلّق غيفارا على ذلك قائلا: «لقد قدّمنا الكثير، وينبغي علينا الآن كذلك إطلاق العنان لتفكيرنا».
مَاذَا كَانَ يَقْرَأ…؟
كان تشي غيفارا شديدَ العناية بالتحصيل والإطّلاع، ويولي اهتماماً خاصاً للقراءة، والمطالعة، وكان قد نشر مقالات،ودراسات، وتعاليق حول مختلف الكتب والمؤلّفات التي قرأها وإلتهمها قبل رحيله، مثل تعاليقه على الكتب التي كان قد قرأها في إفرقيا، وبراغ، وبوليفيا ما بين 1965 و1967 حيث اغتيل في قرية «لاَ إِغِيرَا» في بوليفيا. وكان غيفارا قد أطلق على هذه القراءات «قراءات الشباب» التي يعالج فيها مطالعاته الأولى المبكّرة من عمره القصير.
ويشير الباحث» مَاوْريسْيو بيسينت»: «أنّ الذي يثير الإنتباه في هذا الخصوص هو مدى اهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب، والمؤلفين الذين قرأ لهم في هاتين السنتين والنصف. فإلى جانب البندقية ـ عندما كان في الكونغو- كان يحمل أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين،وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها، والتعاليق التي دوّنها بشأنها، فما بين شهري أبريل ونوفمبر من عام 1965 دوّن فيها الأعمالَ الكاملة ل: «لينين»، وتاريخ العصور الوسطى ل: «كُوسمسنسكي»، ثم المجلد الرابع من الأعمال المختارة ل:»ماو تسي تونغ»، والأعمال الكاملة للشاعر الكوبي الكبير خوسّيه مارتي، وأوْرُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي «الإلياذة» والأوديسة لهوميروس»، ومسرحية «ليلة القتلة» للكاتب الدرامي الكوبي «خوسّيه تريانا». وما بين شهري أغسطس وسبتمبر من عام 1966 حيث كان غيفارا قد عاد إلى كوبا يتدرّب ويهيّئ نفسه في سريّة تامة للمغامرة البوليفية التي لقي فيها مصرعَه، سجّل في أجندته كذلك أسماء العديد من الكتّاب والمؤلفين الآخرين منهم: بابيني، وغويتيسولو، وشكسبير، وماركس، وأنجلز وسواهم. 
يبدو غيفارا في هذه المذكّرات، أو الخواطر، أو الملاحظات التي خلّفها لنا وكأنّه قد أشهر الحربَ ضد التحجّر، والجمود إننا نجده بعد قراءته لكتاب «نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» لأنغلز يقول على سبيل المثال: «لقد قدّم العلماءُ عطاءات ثمينةً في الحقل العلمي، وفى مجال الإقتصاد، إلاّ أنّ القاعدة المثالية التي ينطلق منها هؤلاء العلماء تُفضي بهم إلى سبل الحيرة والضلال، ينبغي معالجة المشاكل التي تَتْرَى وتطرح بروح متفتّحة بناءً على مبدأ اللاّادرية العلمية». 
السِّلاَحُ والقَلَم
يقول الباحث «نيستور كُوهَان»: «غيفارا في خواطره وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، إننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع من أجل تحرير وفكّ الإشتراكية من قيودها المذهبية الجامدة، كما أنه واجه بقوّة الميولات والإتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتكبيلها، وتقليصها في بلد واحد وحبسها بين الدهاليز والممرّات الوزارية ،وكان يومئ بذلك عن عدم قبوله بشكل كلّي للنموذج السّوفييتي آنذاك.
كتابات غيفارا تقرّبنا من حياته الخاصّة، ومن أعماله الأولى، وإهتماماته المبكّرة. وتشير الباحثة الكوبية «ماريا ديل الكارمن أرييت»: «قراءات ثم كتابات إرنيستو تشي فيفارا جاءت لتملأ فراغا حول كلّ ما كناّ نعرفه عن الفكر الفلسفي لغيفارا، وصلته أوعلاقته بالماركسة» وتضيف الباحثة أنّ هذه النصوص تعرّفنا عن مختلف مراحل حياة إيرنيستو غيفارا بدءا بمرحلة المراهقة عنده، وشرَخ شبابه الأوّل، ثم دراساته للأعمال النظرية التي طفق الخوضَ فيها بعد وصوله إلى بوليفيا». لقد كان إيرنيستو تشي غيفارا يحمل في يد البندقيةَ (السلاح)، ويحمل في اليد الأخرى القلمَ (الكلمة)، حيث كان يعتبر هاتين العنصرين أداتين أساستين للنّصرعنده ،وكانت اهتماماته الثورية تتوازَى مع تطلّعاته وانشغالاته الفكرية .
وبمناسبة الذكري السادسة والثمانين لميلاد غيفارا، إحتفلت بعض بلدان أمريكا اللاتينية بهذا الحدَث مثل فنزويلا، وكوبا، وبوليفيا، والأرجنتين ،وبلدان أخرى حيث نظّمت عدّة تظاهرات ولقاءات وأنشطة ثقافية وفكرية سلط خلالها الباحثون والمهتمّون الأضواءَ الكاشفة على المبادئ،والقيم الثورية التي آمن بها غيفارا وناضل من أجلها.
إيرنيستو تشي غيفارا كان قد وُلد في 14 من شهر يونيه (حزيران) 1928 بروساريو بالأرجنتين– وتوفي ببوليفيا في 9 تشرين أوّل/اكتوبر 1967 ). وهو معروف في العالم أجمع باسمه المختصر»تْشِي»، أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية وذلك منذ أن انخرط في المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة» يَاتيِ غْرَانْما»التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحريرالوطني للجزيرة الكاريبيّة كوبا. وفى 8 من أكتوبر 1967 جُرح غيفارا خلال المعركة في بوليفيا إلى جانب رفيقين له، وبعد أن أُلْقِيَ عليه القبض، عُذّب ثمّ أُعْدِم في التاسع من أكتوبر من نفس السنة . وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة في ضريح «سانتا كلارا» بهذه الجزيرة الكاريبية الغريبة الأطوار .

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).

محمّد محمّد خَطاّبي