الذكرى بين الأمس واليوم " ديمي بنت آبة " نموذجا !!

جمعة, 2017-11-24 07:41

 محمدالمصطفى الولي

ماطلعت شمس ولابزغ شعاع ضوء ذكرى من ذكريات وطننا الحبيب إلاوكانت عبرة لمن يعتبر من أولي الألباب ، من وطنيين مخلصين وأدباء وفنانين .... وغالبية السواد الأعظمساكني مدن الصفيح ، ولحظاة عارمة لكل الموريتانين، لم ينسو بأية حال من الأحوالصوت تلك الفنانة التي بذلت الغالي والنفيس في سبيل وطن أخلصت له وغنت من أجلهولقضاياه العادلة ، رافعة رايته شامخة رفرافة في سماء العز والتمثيل في بلدان العالم كله، لم يبق بيت ولامدرإلاوصدحت فيه عقيرتها بالفن العبقري من تلقاء صحراء شنقيط ، من وقوف :امحمد بن أحمديورة—على الديار--- وبكاؤه عليها : 

على الربع بالمدروم أيه وحيه **** وإن كان لايدري جواب المؤيه

وقفت به جذلان نفس كأنما ****     وقفت على ليلاه فيه وميه

وقلت لخل طالما قد صحبته ***     وأدنيته من دون فتيان حيه  

أعني بصوب الدمع من بعد صونه **** ونشر سرير السر من بعدطيه

فماأنت خل المرء في حال رشده *** إذاأنت لست الخل في حال غيه .

.

وبيتاه الخالدان اللذان غنى بهما الفنانون على مر التاريخ ، من إبداعه الأدبي ومسحته الإضافية للأدب العربي من خلال مدرسته التى ارتبطت باسمه كرائد لها (مدرسة ازريكة) ، والتي تعد ثمرة ناضجة من تاريخ الأدب ومن تجديده في الصميم ، يستوي في الجني من ثمارلغتها الحاضر والبادي ... وهما قوله :

.

هب العواذل في لومي وترطال *** ولست أسمع ماقد قال عذال

 

قالوا أتلهوا بعيد الشيب قلت لهم **** بعدالمشيب نعم أصبوا أنا " المال " .

 

ونسيب قيس بن الملوح (مجنون ليلى) بحبيبته وإبدائه الحنين العارم وشوقه المحرق إلى لقيها، في سهرة من لياليه الليلاء صحبة رفيق الدرب وتوأم الروح ، زرياب موريتانيا ، الفنان الكبير : سدوم ولد أيدة حفظه الله :

 

تذكرت ليلى والسنين الخواليا **** وأيام لانخشى على اللهوناهيا

 

بثمدين لاحت نار ليلى وصحبتى *** بذات الغضى تزجي المطي النواجيا

 

فقال بصير القوم ألمحت كوكبا *** بدا في سواد الليل فردا يمانيا 

 

فقلت له بل نار ليلى توقدت **** بعليا تسامى ضوءها فبداليا

 

فليت ركاب القوم لم تقطع الغضي  **** وليت الغضى ماشى الركاب لياليا

 

فياليل كم من حاجة لى مهمة **** إذاجئتكم بالليل لم أدرماهيا ....

وكثيرا ما عزفت على سيمفونية أوتارها الحريرية ، وغنت بصوتها الملائكي الشجي العذب ، بكلمات وأغاني تتراءى عند سماعها الأصالة ، ويتعانق في سمائها الفن ، تنساب حروفها من عبق الذاكرة الفنية والخيالية المطربة ، ياموريتان اعليك امبارك الاستقلال ، موريتاني نصرا ، ياأمنا ياأمنا ، امبابي يمابي ، هيماني ، تمبرمة ... 

إلي غير ذالك من كلمات قاموسية ضاربة ومتجذرة في عمق ذاكرتنا الجمعوية التي مازالت ترانيم "آردين الناقع في آزاي " ونوائح " انتماس " و " اللين " أضحت من منازل " أزوان" في سالف عهد بكى فيه بن الطلبة دمنه واسترجع منازله بعد أن ٌأقفرت مرابعها التي بات أريج عبقها يتردد في الآذان والمسامع، قناصا يوقد الحب ويبعث على الإطمئنان ، وقدلاحت لها في الافق بوادر وعم شعاعها جميع أقطار هذه الأرض الطيبة الطاهرة ، بل وخارجها ، يغني مع البلابل في سكون " بيكي " وامتداد " فاغو " مجيدا لغة صمت  و" منكمرا" من هناك إلى " لبتيت " يردد مع الليل في سكون :

قد أيقظت دمن قفر مرابعها *** تليد ماضي الهوى ونائم الشجن 

ياعين جودي بماقد كنت صائنة *** من الدموع على تذكار ذي الدمن

هذي منازلنا وذي منازلنا *** وذي منازلنا في سالف الزمن

فالعين فالنيل فانجيلان ياعجبا  *** أضحت مراتع لأهل البحر والسفن ...

واليوم وإن تغيبت عنا جسديا فإن حبها ووطنيتها وإنسانيتها وبرورها وإحسانها وطيبتها ... لم تغب عنا بعد ، ومزمارها الداودي الذي تبلور بروح طربية جياشة بكل مكوناته الفنية، مما جعله يمثل روح الفن الأصيل فى أرقى مستوياته الجمالية، وصوتها المعجزالذيأدخلت به السرور على المحزونين المهمومين المغمومين من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، شافية بحنجرتها الذهبية الغليل، راوية بها غلة الصادي ، محبرة الترانيم من المحيط إلى النيل ، بمديح المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حبا وشوقا لنبينا الشفيع ...  فهناك لاتجد الأشياء بل معانيها وأسرارها ،  ولا الحوادث بل أسبابها وأقدارها، ولانيرانالنفس بل أضواءها وأنوارها، فترجع من ثم وفيك الناموس الذي ينبت الخضرة من العودالمغبر،  ويخرج النار من الشجر المخضر، ويجعلك لبحر هذا الأزل كأنك مكان من البر،منشدين معا قول الشاعر الأكبر: 

مابين ضال المنحى وظلاله ***   ضل المتيم واهتدى بضلاله .....

متذكرين وصية الآخر:

قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بناسك متعبد 

قدكان شمر للصلاة ثيابه **** حتى وقفت له بباب المسجد

سلبت منه صلاته وصيامه *** وتركته في حيرة لايهتدي

ردي عليه صلاته وصيامه *** لاتقتليه بحق دين محمد ..

فحينئذ تستقر عينك وترسل كل عواطفها في مجاري دمعها ومحاجرها،وقدرحلت أيقونة الفن وعنوانه عنك بصفتك ابنا لها،  وكنزك الذهبي الذي لاتملك غيره، فأصبحت تبكي وتبكي علي قدر حبها الذي لاحد له ، وفراقها الذي لاصبر معه ، ومصيبتها التي لاسببفيها من أسباب العزاء سوى ساهمات الخدود ، وذابلات الأعين ، فتنبني تلك الأبيات وتجري على لسان من الألسن :

ألاهبيك ويحك يان ديمي *** بماأطوى علي من النعيم

فلامالا تراه ولاعيالا   ***  ولكن يان ديم صوت ديمي ... 

فتخرجك من ظلمات الحياة إلى أنوارها ، وتبدأ في استماعك الخاشع إلي عودها –ضربها وعزفها ،-  تلحينها وغناءها  ،حيث تغتدي ألفاظها عرائس حسنا، يقول سامعها هاؤم اسمعوا قولها وهي تنشد أبيات شاعر الدنيا (المتنبي ) :

على قدر أهل العزم تأتى العزائم ***  وتأتى على قدر الكرام المكارم

وتصغر في عين الصغير صغارها *** وتعظم في عين العظيم العظائم ....
بصوت ونغمات كوكب الصحراء —ديمى— تخلل الأعماق ، وتشفيك من الداء بدواءها ،فتقول مكافئالها :

ضرب لديمي على الاوتار أورثني *** ضربا من المس أومسا من الخبل

لكنما صوتها يشفي على عجل *** مس الجنون ومس الزيغ والوجل ...

ولكن الفراق لابد من أن ياتي ، وقبل أن ياتي تستمع بإصغاء قولها الندي ، في مدح النبي محمد-صلى الله عليه وسلم :

محمد بشروليس كالبشر *** بل هوياقوتة والناس كالحجر ....

وما تنفك تعانق الخيال بما يسلي النفوس ويملأها بهجة وسكينة ، وهي تشدوا ، بصوتها البلبلي الموريتاني الذي لايعلوه صوت ولاتخطئه المسامع ، طالعة في أعلى سلم مدائح : البرعي :

يارب صل على النبي المجتبي *** ماغردت في الأيك ساجعة الربى

يارب صل على النبي وءاله ***  مااهتزت الأثلاث من نفس الصبا 

يارب صل على النبي وءاله *** ماأمت الزوار مسجد يثربا ...

منحدرة من علياء الفن إلى ربى مدائن الريح في همسات بين خفق رؤى وخيال الأغنية الصارخة فى شذى التجلي وتعاطي الشاعر الكبير : أحمدو عبدالقادر كؤوس الفن مترعة مثل ما تبدع السحاب إذاماعانت الأرض بعد قطع الوصال ... إنه تهليل مطربة الجماهير بموريتانيا :

هللي موريتان ماذاك إلا  *** ومضة من سراجك المتلالي

هللي يابلاد مانحن إلا *** قطرة من معينك السلسال .....

إنها إحدى رموز الوطن ترسم موريتانيا على جدران الخلود وجدول التعالي العازف :

ريشة الفن بلسم وسلاح  *** ودليل يضيء وعي الرجال ...

 

إنها باختصارالفنانة العظيمة عنوان الأصالة والحب والوطنية ، وشعار الفن والأدب والوحدة والإنسانية ، أعجوبة الصحراء ، المرحومة : ديمي بنت سيداتي بن آب رحمها الله برحمته الواسعة وأسكنها فسيح جناته ، من تركت فاجعة رحيلها يوم السبت 2 رجب 1432- 5 يونيو 2011م خسوف شمس لم تأفل في صفوف الموريتانيين لها بداية ولايتصورلها نهاية كنصف الخط المستقيم ، 
من كانت محل إجماع بتميزها وبزوغ نجمها في سماء الفن والأدب ،

أما والله ماتحت الأديم ***  أديم الأرض مطربة كديم

فتاة طورت لحنا قديما  *** ففازت في المطور والقديم 

ترى الجلاس تهتز منها *** كمااهتزت أغصان النسيم 

 

رحمك الله يا ديمي

فتخليد الذكريات بعدك ناقص يافقيدة الذكريات ، فالبحربعدك لم يهب نسيمه والعلم الوطني لم يرفرف بخضرته وذهبيته وهلاله في مدينة " الافتات " والجو لم يبتهج والصحراء قاحلة كئيبة ، والفن قلب مجنه على طاولة أجنبية لاتشعربصدق الإنتماء والخلود إلى وطن بكت عليك سماءه وحدثت عنك أرضه أنك في دفاتر الخالدين ، ولي أن أردد مع بن بلعمشقوله :

 

 

كانت لنانعمة تمحوا مواجعنا  *** فما أقل الألى في حمدها صدقوا

 

إناغرقنا ولاإثم يدنسنا ***           طوبى لمن في بحار الروح قد غرقوا 

 

من أمرك الله هذي الروح تسكننا ** منها تدلت رؤى الفنان إن رشقوا 

 

ياديم ياحرقة في القلب باقية ***  ألارجوع فروح الحبر تختنق 

 

من ذا يخفف عن سيدات لوعته ** وكان ممن بوعد الله قدوثقوا

 

من ذا سيرجع للدنيا نضارتها *** وتصطفيه مقادير فينطلق 

 

الله يامن لك العتبى إذا انزلقت ** بعض الحروف فنارالحزن منزلق

 

أنت الرحيم الذي لولاه ماخلقت *** هذي المشاعر والأوجاع والمزق

 

فاغفرلها واخترالفردوس منزلها *** فكم عباد بفضل الله قد عتقوا

 

كانت بذكرك يامولاي صادحة ***  وسرها الخوف لاعمد ولانزق

 

أنت الكريم ومن يحلل بساحته ***  كان الرجاء به أحرى فلاقلق

 

امنن بصبر يعم الأهل إن جزعوا ** فتستبين على إرباكناالطرق

 

ثم الصلاة على المختارفاتح ما *** قد أغلقوا وبه ختم لمن قدسبقوا .