في الأدب وسقوط المدن: النسيان ذاكرة مخذولة

ثلاثاء, 2014-08-05 12:06

من يستشرف سقوط المدن قبل سقوطها؟ قرأت مرّة أنّ «المدينة هي الناس»، ولعلّ القائل شكسبير. وهذا قول فيه مقدار كبير من الصواب؛ فليست المدينة بيوتا وشوارع وساحات ومرافق عموميّة… إنّما هي فضاء انسانيّ تسوخ فيه أقدامنا، وتغوص أجسادنا، وتجوس أبصارنا؛ في خطوط مستقيمة أوعموديّة أو متكسّرة أو منحنية مائلة، كلّما انفتح شارع أو انغلق زقاق.
المدينة فضاء تبادل مع ذواتنا ومع الآخرين حيث أجسادنا كلّها عيون وأحداق، حيث الخارج والداخل لا يمثّلان منطقتين متفاصلتين. بل هما لا يوجدان إلاّ بدءا من توتّر الوجود الذي يفتحهما معا. ولعلّ الأشدّ إثارة في المدينة، أنّنا نكون دائما في الداخل؛ حتى ونحن في الشارع أو في المقهى حيث لا قرب إلاّ من خلال بعد، ولا بعد إلاّ من خلال قرب. عندما تسقط مدينة ما، يكون أهلها قد سقطوا قبل ذلك بكثير.. ليسوا كلّهم تأكيدا، وإنّما أغلبيّتهم الذين هم أشبه بثمار فجّة لم تنضج بعد، أو ثمار فاسدة فات أوان قطافها؛ فهي تتهاوى عند أوّل ريح، لتبيضّ في الأرض وتسترخي، وتتفسّخ كما يتفسّخ كلّ شيء ميّت.
من يستشرف سقوط المدن؟ ربّما لا أحد، فلسنا أنبياء، وليس لنا كرامات الأولياء الصالحين. على أنّه بإمكان الأدب والفنّ عامّة، متى غاص في لحم الواقع؛ أن يستشرف هذا السقوط. فالكتابة الحقّ مستقبليّة أبدا. وبما أنّ أيّ زمن يقع في كليّة الزمن، فإنّ النصّ الأدبي أكان شعرا أم رواية وما إليهما؛ وهو ناشئ لاشكّ في زمن ما؛ لا يمكن إلاّ أن تتواصل فيه سائر الأزمنة؛ وكأنّها أضواء يخيط بعضها بعضا. و»أتذكّر» لا يحيل على أشياء الماضي فحسب؛ وإنّما أيضا على أشياء ماتزال في طيّ المستقبل.
إنّ النسيان في علاقة دائمة بالذاكرة، بل هو في ما تبيّنه المباحث الفلسفيّة، قد لا يكون سوى «ذاكرة مخذولة» أو فقدان ذاكرة أو غيابها. لنقل إنّه «ذاكرة مقلوبة سلبيّا»،ففي Oublier/Oblitareالفرنسيّة مثلا فإنّ الفعل» نسي» مستقّ من أصل لاتينيّ يحوي معنى»الترميم» أو»الإصلاح» أو»التصويب 
أمّا في العربيّة فللنسيان أصلان صحيحان؛ يدلّ أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على تركه. وكثيرا ما نغفل وننسى، فنحن نعرف كلّنا من كتب التاريخ، أنّ غرناطة مثلا سقطت في نهايات القرن الخامس عشر. ولكنّ الذي يقرأ تاريخ الأندلس وآدابها؛ يدرك أنّ غرناطة التي اتّخذها محمّد بن يوسف الشهير بابن الأحمر، عاصمة ملْكه، والتي استطاعت أن تصمد وتدفع كلّ الأخطار المتربّصة بها؛ لأكثر من قرنين ونصف، وتأوي كلّ من التجأ إليها من مشرّدي المدن الأندلسيّة المنكوبة؛ كانت قد سقطت في اللحظة التي قبل أوّل ملوكها هذا، أن يدخل في حماية ملك قشتالة»فرديناند الثالث»، لا مقابل جزية ضخمة فحسب، وإنّما أن يكون تابعا له، ويهرع إلى مساعدته أيّا يكنْ عدوّه مسلما أو نصرانيّا، وأن يحضر المجلس النيابي لقشتالة، باعتباره تابعا للعرش القشتالي. ولم يكتف ابن الأحمر بذلك بل سلّم فرديناند هذا مدن جيّان وأرجونة والحجار وقلعة جابر… رهينة بحسن طاعته. وعندما حاصر ملك قشتالة إشبيلية؛ طلب من ابن الأحمر أن يطبّق بنود الاتفاق، فما كان منه إلاّ أن أذعن صاغرا، وبعث إلى فرديناند بكتيبة من فرسان المسلمين؛ للمعاونة على افتكاك إشبيلية من الموحّدين؛ وهو ماتمّ فسارع القشتاليّون بنهبها وإزالة معالمها الإسلاميّة، وتحويل مساجدها إلى كنائس.
كلّ هذا وغيره، يستطيع أيّ منّا رُزق حظا من خيال وحدس، أن يستشفّه من شعر الأندلس وآدابها. فقد كان كثير من هذا الأدب علامة دالّة على بدء نضوب قوّة الأندلس، ونفاد حيويّتها، حتى وهي في ريعان عزّتها.. لكأنّه كان ينبثق من قديم خواء وسالف فوضى، ومن قلق يرهف الخواطر ويفضّ أغلاق اللغة. لكن لنتذكّر حتى لا يغفل أدبنا هذه المدن العربيّة التي تتساقط اليوم شرقا وغربا، ويتخلّى عنها؛ أنّه عندما كان المتنبيّ يفصح عن خفايا السقوط، وينفذ إلى ما وراء حجب الواقع، كان ابن سكره يكتب حماقاته، وابن حجّاج يرسل سخافاته.

منصف الوهايبي