وما التأنيثُ إلا تذكيرٌ مقلوبٌ

ثلاثاء, 2014-08-12 16:42

نزعم أن مقولةَ التأنيث في ثقافتنا العربية ليست إلاّ طاحونةَ تصوّراتٍ وتمثّلات ينزع فيها أصحابُها إلى إعادة إنتاجِ الصراعِ المجّاني بين تذكير فواعل التاريخِ وتأنيث مفعولاته. وهو صراع نُلفي له صورة في طبيعة التعاطي مع المنجَز الإبداعي للمرأة العربية، خاصة بعد تنامي عدد كاتبات الرواية منذ بداية هذا القرن. إذ لا يني النقد الرجالي، وكذا العقلية الاجتماعية، يحمّلان المرأة مسؤوليةَ «عِفَّةِ» نصوصها عبر سبيل مجموعة من الوصايا التي حجّمت حضورها في الفعل الكتابي، إذ تشير بعض الإحصاءات أن نسبة ما تكتبه المرأة لا يتجاوز 5 بالمئة من نسبة ما يكتبه الرجل. 
ويظهر أنّ الميل إلى القول بأفضليّةِ المُذكَّرِ على المؤنّثِ دفعت أكثريّةً من أصحاب تلك الطاحونة إلى القول إنّ في بعضِ آي القرآن دليلا على أنّ الأنثى أرضُ الرجل ومسكنُه، وهي لا تَبرحُ فضاء المفعوليّةَ. وهو أمر بالغ في تأويله البعض حتى دعوا إلى تقبيح أنوثة المرأة بالقول إنّ صفةَ التأنيثِ فيها غيرُ حقيقيّةٍ لأنّ تأنيثها يُقبّحُ معقولاتِ هذا الكون على حدِّ قول الأخفش: «كلُّ مؤنَّثٍ فرَّقتَ بينه وبين فعله حَسُن أن تُذَكِّر فعلَه، إن ذلك [التأنيث] يَقْبُحُ فيما يُعْقَلُ؛ لأن الذي يُعْقَل أشدُّ استحقاقًا للفعل» ودلّلوا على ذلك «بتذكير» الفعلِ في الآية «لا يَحِلُّ لك النساءُ» (الأحزاب- 52) والآية «لا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ» (البقرة- 48).
وعلى غرار هذا التأويل، ظلّت طاحونةُ هذا الصراعِ تفري أفكارَ الناسِ في ثقافتنا العربيّة صانعةً منها خلافاتٍ جمّةً لا يحتملُها الواقعُ، إذ نجدها أحيانًا تُطفئُ نارَ فتنةِ مخلوقاتهم الإبداعيّة، لا، بل وتزنها بمكياليْن وزنا غير بريء.
والجليّ أن في أغلب النصوص الكبرى للثقافة العربية كالقرآن والحديث والفقه والشعر واللغة، يوجد خلاف دَلالي بين المذكّر والمؤنّث يميل فيه الناس إلى الإعلاء من شأن الأول واستهجان الثاني، وقلّما تمّ فيه تثمين الأنوثة.
من ذلك أن الأنيثَ في اللغة، هو الليِّنُ من الأشياء وضعيفُها، وهو خلافُ الذَّكَرِ بما يحيل إليه من قوة وبأس، وهذا ما يؤكّده اللسان في قول ابن منظور: «وسَيْف مُذَكَّرٌ: شَفْرَتُه حديد ذَكَرٌ ومَتْنُه أَنِيثٌ»، وفي هذا المعنى يقول الشاعر صخر بن عبد الله الغيّ الهذلي: «ليتَ مُبلغًا يأتي بقول/ لقاء أبي المثلم لا يريثُ/ فيُخبره بأن العقلَ عندي/ جرازٌ لا أفَلُّ ولا أَنِيثُ» في توصيف منه لعقله بالبأس والشدّة.
ولا تَخْفَى في تفاسير القرآن، مساواةُ المفسِّرين بين الأنثى والموت، أو بينها وبين الجماد، أو بينها وبين الأوثان في دَلالات الشِّرْك والشرّ، إذ يورد ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: «إن يدعون من دونه إلا إناثا» (النساء- 117) قول ابن عباس بأن «إناثا» تعني الموتى. وهي أيضا «كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس». وهذا أمر يناقض طبيعة الأنثى من جهة صفتيْ الإخصاب والإنبات فيها. بل إن من الباحثين مَن يرى أن النص القرآني لم يخاطب المرأة حتى في أدقّ شيء يخصّها، وهو الحيض، إذ توجّه بالخطاب في هذا الأمر إلى الذّكر في قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ» (البقرة-222).
وفي السياق ذاته، ظلّ التأنيث عبر عصور الإنسان، مُثيرًا لكَمٍّ من المسائل الفكريّة سواء في النحوِ أو في الاعتقادِ أو في كيفيات الاجتماعِ البشريّ. ولئن تنوّعت المقاربات الساعيةُ إلى توطين هذا المفهومِ في بيئاتِه الأيديولوجيّة والفلسفيّة والعقائديّة إلاّ أنّ وقائعَ الحياةِ ما تزال تُنبئُ بأنّه مفهومٌ شائكٌ وماسكٌ برقابِ الفكرِ العربيِّ يكادُ يخنُقُه ويمنعُه الهَواءَ. حيث حازت فيه الأنثى حيّزَ الموضوع، وحاز فيه الذكر حيّز المرفوع.
فلا أحد يستطيع أن يجزم بأنّ ثمّة ظاهرةً مّا أو موقفًا سياسيًّا مّا أو سلوكًا حضاريًّا أو حركةً في صُلب النصوصِ الإبداعيّةِ غيرُ خاضعةٍ في أحكامِ اشتغالِها لمقولةِ غلبة المذكّر على الأنيث. والاختلافُ الذي مهرَ آراءَ المفكِّرين والفلاسفةِ العرب بشأن التأنيث جليّ الحضور في كتاباتهم، فإذا كان ابن عربي يرى أنّ «كلّ ما لا يؤنّث لا يُعوّل عليه”» يقولُ أغلبُ النحويين إنّ «الأصل في الأسماء التذكيرُ والتأنيث فرع منه».
والغالبُ في أمرِ التأنيث أنّ الذين خاضوا في مفاهيمه ذكورٌ، لكأنّ ثمّة تأكيدًا منهم على أنّ الحديثَ عن الأنثى لا يتأتّى إلاّ للرِّجالِ، فغابتْ بذلك كثيرٌ من أفكار الإناثِ ولم يصلنا منها إلاّ نزرٌ لا يُمكّننا من رسمِ صورةٍ واضحةٍ عن تفكيرِ الإناثِ في الأنوثة أو في تذكيرِ العالَمِ، ونعني بذلك صورة الذّكر في مرآة الأنثى، أو ما أسميناه في عنوان مقالتنا بالتذكير المقلوب، دون سعيٍ منّا إلى ترجيح كفّة أحد الطرفين على الآخر، لأن من شأن مثل هذا الترجيح أن يُضعف الفكر البشريّ ويُشتّت جهود الذات الإنسانية في تأصيل وحدة قيَمها الكونية.
ولعلّ أجلى فضاء تتجلى فيه المواجهات بين المذكّر والمؤنّث، ويزداد ضمنه عنفوانُ الاختلاف بينهما، هو فضاء الكتابة الإبداعية، حيث ما يزال الفكر الذكوري العربي يقرُّ بأهليته في تسيير مؤسّسة الإبداع وحراستها من كل نصّ أنثوي قد يزلزل سلطته وينتهك حرمتَه أو يفتح الباب أمام مشاركة المرأة في إبداع نصّ الحياة. وهو أمر جعل الإبداع الكتابيّ العربيّ أعرج يتوكّأ على فحولة نصيّة مزعومة يزعم أنها سبيله إلى التميّز. ولعلّ أفضل ما يُختم به القول في هذا الغرض هو ما ذكره ابن عربي في «الوصايا»، حيث يقول: « إنَّـا إنَــاثٌ لِمـا فِيـنَا يُولِّـدُه/ فلنحمدِ الله مَا فِي الكونِ من رَجُلِ/ إنَّ الرجَـالَ الَّذِين العرفُ عَيَّـنَهُم/ هُمُ الإنَاثُ وَهُم سُؤلِي وَهُم أمَلي».
كاتب تونسي

عبد الدائم السلامي