صلاح الدين الأيوبي بين الأسطورة والتاريخ

أربعاء, 2014-08-13 15:41

صلاح الدين الأيوبي ، الشخصية التاريخية ، موضوع كتاب ( صلاح الدين الأيوبي وإعادة إحياء المذهب السني ) الصادر مؤخراً عن دار بلومزبري مؤسسة قطر للنشر ، والذي يُقدم لقُرَّاء العربية للمرة الأولى مُترجماً عن النص الأصلي الذي كتبه بالإنكليزية الباحث النابه عبد الرحمن عزام وترجمه وعلق عليه المؤرخ قاسم عبده قاسم ، يُقدم هذا الكتاب للقارئ العربي صورة جديدة من بين صور تاريخية وأسطورية عديدة ، للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب . وفي هذا الكتاب اختار المؤلف أن ينظر إلى صلاح الدين من زاوية لم يشاركه فيها أحد من قبل ؛ اختار المؤلف أن يُطل على الأحداث السياسية والعسكرية والفكرية في ذلك العصر من نافذة صلاح الدين الأيوبي نفسه ، ومع أن الكتب التي كُتبت عن صلاح الدين ، في عدد كبير من اللغات ، وعلى مر الأزمنة ، كثيرة بشكل يجعل إحصاءها مهمة شبه مستحيلة ، استطاع عزام التركيز على الجانب الشخصي في بطل كتابه ، بحيث نُطلٌّ على الأحداث ونحن وقوف إلى جوار صلاح الدين في كل موقف من المواقف التي واجهها ، أو واجهته ، على مدى هذه السيرة.

السلطان والانسان

حاول المؤلف أن يُقدم لنا « الإنسان» صلاح الدين ، في ذروة انتصاره ، وتألقه ، كما حاول أن يصوره وهو في الدرك الأسفل من إحباطه ، قدم لنا صلاح الدين : الابن المطيع لوالده الذي يطلب مشورته ورأيه ، والزوج المحب الذي يُخفون عنه نبأ وفاة زوجته حتى لا يتأثر بموت المرأة التي أحبها ، والأب بكل ما يتصف به من عطف ومهابة ومن قوة في تربية أبنائه والإشفاق عليهم ، ورأينا صلاح الدين يبكي ، ويخاف ، ويتوتر ، وينفعل ، ويغضب ، ويقتل بيده . صور المؤلف على امتداد صفحات كتابه صلاح الدين الإنسان الحقيقي داخل جلده البشري ، ولم ينزع عنه بشريته ، كما يحلو لبعض كتاب السيرة ، لكن المؤلف وقع في غرام صاحبه الذي كتب سيرته ودافع عنه بسبب هذا الغرام أحياناً . هناك بالتأكيد بعض اختلافات في وجهات النظر بين المؤلف والمترجم ، وهو ما أراه من طبيعة الأشياء . ذلك أن النظر إلى التاريخ من نافذة الشخصية الفردية يختلف بالضرورة عن النظر إلى الشخصية من خلال العصر وحقائقه التاريخية الموضوعية ، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن هناك فضلا لرؤية على رؤية أخرى ، وإنما يعني بالضرورة وجود اختلاف في الزاوية التي يتم النظر منها ، ومن ثَمَّ وجود اختلاف في وجهات النظر. 
جاء صلاح الدين ليلعب دوره التاريخي من خلفية الصراع بين الصليبيين والمسلمين ، وهو الصراع الذي نجم عن نجاح الحملة الصليبية الأولى سنة 1099م . ولم يكن ظهوره ناتجاً عن الصراع بين السنة والشيعة كما يظن عزام عبد الرحمن. اكتشف الناس والحكام أن الصليبيين جاءوا إلى المنطقة العربية بقصد البقاء ، وليسوا مجرد جنود مرتزقة جاءوا من الغرب للعمل في جيوش الدولة البيزنطية كما حدث مراراً من قبل . وكان هذا اكتشافاً مؤلماً وخطيراً ، كما كان مقدمة لعدد من ردود الفعل على المستوى الفكري والثقافي في المنطقة العربية لم تلبث أن خلقت أفعالاً وتصرفات على المستوى السياسي والعسكري . ومنذ البداية لم تتوقف المحاولات من جانب المسلمين للتصدي للصليبيين . لكن ميراث الشك والمرارة في المنطقة وقد خلفته الحوادث السياسية والعسكرية على امتداد القرن السابق على قدوم الصليبيين إلى المنطقة ، حال دون القيام بأي عمل سياسي أو عسكري فعال ضد الوجود الصليبي في المنطقة العربية .

المبالغة وأهل الذمة

أشار المؤلف لجهود صلاح الدين على المستوى المذهبي وكيف أنه تحرك بسرعة للقضاء على المذهب الشيعي وإعادة المذهب السنى إلى مصر . والحقيقة أن هناك قدراً من المبالغة في هذه القضية ؛ لأن المذهب السنى لم يخرج من مصر حتى يعيده إليها صلاح الدين أو غيره فقد ظل المصريون على تمسكهم بالمذهب السني ، وكانت لفقهاء مصر منذ البداية إسهامات مهمة في تطوير الفقه السني ، ومنهم أولاد عبد الحكم ، والليث بن سعد ، والإمام الشافعي نفسه . وعلى المستوى الشعبي حول المصريون كثيراً من احتفالات «الحزن» الشيعية إلى احتفالات شعبية سارة . وتحفل المصادر التاريخية بالأمثلة الدالة على مقاومة المصريين للفاطميين وكراهيتهم لهم ، أو عدم الاحتفاء بهم أو تأييدهم على الأقل ، وربما تأثر صلاح الدين بآراء فقهاء المشرق الذين أحاطوا به ، والشيوخ الذين تولوا التدريس في المدارس السنية الحديثة ، وكان معظمهم من مناطق المشرق الإسلامي الذين عرفوا بتشددهم المذهبي ، ولم يدرك طبيعة الموقف المصري الشعبي من الدولة الفاطمية والمذهب الإسماعيلي وانعكس ذلك في الحقيقة التاريخية القائلة بأن الفاطميين اعتمدوا في إدارة دولتهم على المغاربة وعلى أهل الذمة ، بحيث يعتبر بعض الباحثين أن العصر الفاطمي كان العصر الذهبي لأهل الذمة .كما أغفل قانون التعاطف مع كل مظلوم ومضطهد لدى الجماعة الشعبية المصرية والتي تعاطفت مع جماعة الدين المسيحي الذين اضطهدهم الرومان فالتف حولهم أهل الجماعة الشعبية ووضعوا من بعضهم (مصدرات) ثورية وأيدوهم والتفوا حولهم ، وصنعوا منهم أبطالا وثوراً وبعناد وإصرار معادي مضاد للرومان ، مارسوا طقوسهم الجديدة المصرية الملامح في السر والعلن . 
وعندما حاصر وطارد آل أيوب السنية الفاطميين الشيعة ، تكرر نفس الموضوع بصيغ جديدة معدلة ، فتعاطفت الجماعة الشعبية مع الفاطميين الذين سبق قاوموهم في وقت وجودهم كحكام فوق قمة السلطة الحاكمة ، أما عندما صاروا مضطهدين ومطاردين أيدوهم فتحولت الجوامع الصغيرة والزوايا إلى بؤر شيعية ، تمارس فيها الجماعة الشعبية ، علنا وسرا كل ما هو ضد الجماعة السنية ، ورغم هذه المواقف العنيدة ضد كل حاكم فسوف نجد لهم مواقفا أخرى تكشف عدم اهتمام الجماعة الشعبية بالأفكار السنية أو الشيعية ، فكل اهتمامهم بنصب على الموقف السياسي لا العقائدي ، والذي يعتني عناية خاصة بخلق كل ما هو ( ضد) يقف بأي شكل من الأشكال ضد السلطة الحاكمة ، وهو ما يمكن أن نتلمسه في موقف الجماعة الشعبية من الأخوان والتبدل في المواقف تبعا لتبدل مواقعهم من الضحية إلى الجلاد ومن الجلاد إلى الضحية !
وفي غمرة حماسة صلاح الدين لمحاربة المذهب الشيعي وإعادة تأسيس المذهب السني في مصر أغلق الجامع الأزهر ، وباع ما بقى من كنوز مكتبةالقاهرة،ونفائسها( وقد بيعت بعض كتبها في أثناء الشدة المستنصرية ) وعلى الرغم من أن البعض يمكنهم تبرير هذا التصرف في ضوء حماسة صلاح الدين للمذهب السني وترسيخه في مصر ، فالواقع أن المصريين لم يعتنقوا في معظمهم المذهب الإسماعيلي ( مذهب الدولة الفاطمية ) من ناحية ، كما أن تأثير هذا التصرف كان سلبياً على الحياة الفكرية والثقافية في مصر من ناحية أخرى .

الواقع والخيال

الكتاب المتميز يؤكد أن المؤرخ لا يستطيع أن يضطلع بمهمة الكتابة عن صلاح الدين من دون أن يضطر إلى مواجهة القصص الكثيرة التي ادخلت البهجة في نفوس القراء والمتلقين على مرِّ القرون حول شخصيته ، وخلطت بين الحقيقة والأسطورة ، وعليه أن يتعرف عليها أولا ثم يستبعدها في النهاية ، تزداد هذه المهمة النبيلة في غايتها ، المرهقة في تنقيذها ، تعقيداً بحقيقة بسيطة مؤداها أن الناس يفضلون الأسطورة ، كما يفند الكتاب أساطير مقابلة صلاح الدين لريتشارد ، كما لا يمكن أن يكون قد أقام علاقة مع أُم ريتشارد ويذكرنا بصور صلاح الدين في كتب منشورات «لديبرد» للأطفال حيث برزت صورة صلاح الدين يقف فيها جنباً إلى جنب مع ريتشارد يستعرضان قوتهما ، إذ ضرب ريتشارد قضيباً حديديا بسيفه بقوة هائلة فقسمه نصفين ، ورمى صلاح الدين بدوره وشاحاً حريرياً في الهواء ، وقطعه بهدوء وهو يهبط إلى الأرض ، وكيف لهذه القصة الخرافية كانت دافعاً للبحث عن الحقيقة التاريخية العميقة . 
يرصد الكتاب التحولات العديدة التي مرت بها شخصية صلاح الدين حيث شكل كل صورة صلاح الدين وفق مخيلته الخاصة ؛ فقد رأى «لين بول» في فروسية صلاح الدين تجاه الصليبيين «تنشئة طيبة لرجل نبيل « بينما وضعه دانتي في أول طبقات الجحيم مع أبطال طروادة وروما ، أما ركس هاريسون فقد صوره وغداً على حين يظهر في فيلم يوسف شاهين الملحمي 1963م بطلا للقومية العربية الاشتراكية , ويبدو أنه لم يستثن من شئ فقد ظهر صلاح الدين في حلقة تلفزيونية بعنوان «دكتور هو» ومن المؤكد أن إطلاق اسم هذا القائد العسكري على إحدى كتائب منظمة التحرير الفلسطينية ، ثم إطلاق الاسم نفسه على دبابة بريطانية يمثل حالة فريدة في التاريخ . هناك رؤى كثيرة لصلاح الدين : النبيل ، الصبور ، القاسي . ويبدو أن مقابل كل قصة عن صلاح الدين تظهر جانباً سيئا في روح الإنسان نرى روايتين عن كل فضيلة تحلى بها . وحقيقة أن هذه القصص الخيالية لا تمت للشخصية التاريخية بصلة أمر يبدو خارج الموضوع ؛ لأن صلاح الدين أكبر من أن يترك للمؤرخين وحدهم لكن صلاح الدين وجد وهذه القصص الخيالية لا تناسب المؤرخين وكثيرا ما تزعجهم ونجد اسم صلاح الدين يظهر كثيرا في الأعمال الأدبية والفنية ووسائل الإعلام الشعبية بحيث يكون من الغفلة ألا نسأل عن السبب : لماذا كل هذه القصص؟ 
في غضون شهر من انتصار صلاح الدين في حطين واستراداد القدس ، نظمت عدة قصائد في الغرب عن صلاح الدين وثمة قصيدة مجهولة المؤلف نظمت سنة 1187م على وجه التجديد تمثل رؤية غربية معاصرة . وقد أفرطت ، وهى تركز على استيلاء صلاح الدين على السلطة في انتقاداتها اللاذعة : استولى صلاح الدين على السلطة بشكل غير شرعي ، فقد كان يشغل رتبة صغيرة في الجيش ، ثم استولى على السلطة باغتصاب زوجة سيده ثم استولى على مصر بدس السم لسيده نور الدين هذه الصورة لصلاح الدين بعيدة جداً عن الصورة المعهودة عنه ؛ صورة النبيل لسبب وجيه : في سنة 1187م كان صلاح الدين لا يزال على قيد الحياة ، ولا يشكل تهديداً عسكرياً فقط بل تهديداً فكرياً أيضاً فقد وجد العرب نفسه في مواجهة عدو لديه من الحجج المقنعة للمطالبة بالمقدسات مثل ما لديهم كما ظهرت الانتصارات التي حققها هذا العدو وكأنها تأكيد لمزاعمه وحججه . وتساءل المسيحيون الحيارى تُرى هل يمكن للرب أن يقف مع الكفار ؟! كان ضياع القدس مصيبة مروعة للغرب الأوروبي ، وكان بحاجة إلى تفسير منطقي لهذا الحدث ، وتطلب الأمر أن يجد الكتاب المسيحيون تبريراً عقلانياً لديانة صلاح الدين ، وبدأت تظهر في خلال قرن قصص تلمح إلى تحول صلاح الدين إلى المسيحية ، وحاولت بعض القصص أن تنسبه إلى أصول أوربية في قصة منسوبة إلى جان إينيكل الذي مات سنة 1251م ، يتم تصوير صلاح الدين راقداً على فراش الموت عاجزاً عن الاختيار بين الإسلام والمسيحية واليهودية . وفي قصة بعنوان « حكايات منسترال ريمس» كتبت سنة 1260م يتم تصوير صلاح الدين مرة أخرى على فراش الموت يطلب صحناً فيه ماء ليعمد نفسه . وعرض الكتاب لقصص تتحدث عن شهرة صلاح الدين عاشقاً بدلا من شهرته محارباً ، ونقرأ أن « إليانور الأكويتانية « وقعت في أثناء الحملة الصليبية الثانية في غرام صلاح الدين فأعادها زوجها إلى بلادها ملطخة بالعار ، وهذا أمر غير محتمل فقد كانت إليانور في الأراضي المقدسة وصلاح الدين في العاشرة من عمره ، وتلك القصة الخيالية تربطها علاقة ما بقصة خيالية أخرى عن علاقة غرامية مزعومة بين « إليانور» ، و»ريمون» أمير أنطاكية ، وهي قصة أثارت فضيحة كبرى آنذاك .

القائد العسكري

ويبدو أن براعته العسكرية وفقا لتصورهم ترجع بالقدر إلى أصل مسيحي فقد جعل « متى الباريسي « في كتابه « تاريخ الإنكليز» أُّم صلاح الدين إنكليزية ، وثمة موضوع شائع آخر يزعم أن « هنري التوروني» منح صلاح الدين لقب الفارس المسيحي حين تقابل الرجلان في الإسكندرية . وهناك قصص أخرى تغير الاسم ليكون « هيو» أمير طبرية . لكن قصة منح صلاح الدين لقب فارس ظلت موجودة حتى ثلاثينيات القرن العشرين ، عندما خصص « روزبولت» الفصل الافتتاحي من سيرة صلاح الدين لحادثة منحه لقب فارس لا باعتبارها أسطورة بل حقيقة تاريخية . ولدينا قصص عن صلاح الدين وهو يسافر ويجد صلاح الدين نفسه في باريس حيث يشتبك في مبارزة فردية مع أحد الفرسان لينقذ فتاة في محنة . وفي وقت لاحق يُسقط «ريتشارد» نفسه من فوق حصانه في مبارزة على ظهور الخيل في «كامبري» وكالعادة تقع ملكة فرنسا في حب صلاح الدين ويرحل ( مرة أخرى) إلى وطنه في خزي ، وفي قصة «ماتيلدا « لـ»صوفي كوتين» المنشورة سنة 1805م ، لا تقع البطلة ، التي تحمل القصة اسمها في حب صلاح الدين بل في حب أخيه ، ويتزوجها بعد أن يتحول إلى المسيحية ، ثم نصل إلى الزيارة الشهيرة التي قام بها القيصر « وليم الثاني» إلى قبر صلاح الدين في دمشق ، الضريح الصغير شبه الخفي في حديقة صغيرة تغطيه قبة مضلعة حمراء ، وكان مهملا لدرجة أن القيصر ، وقد أثر فيه هذا المشهد ، أمر بتجديد الضريح على نفقته الخاصة ووضع شعاره على مصباح معلق على القبر . وربما تلك اللحظة التي أعلن فيها خليفة « فرديريك بربروسا» ولاءه لألد أعداء أجداده ، اتسعت الفجوة بين صلاح الدين الأسطورة ، وصلاح الدين التاريخي إلى أقصى مدى . وعلى أية حال ، قد يطرح أي قارئ فطن عند هذه النقطة ، السؤال الصعب : إذا كان صلاح الدين بطلا على هذا القدر من العظمة ، فلماذا كان قبره متهدماً على هذا النحو ؟!.

تحرير القدس

عكست حالة القبر حقيقة أعمق ؛ وهي أن المسلمين أهملوا صلاح الدين عدة قرون ، وتكتب « هيلندابراند» وتنتقي كلماتها بعناية عن « الطريق الملتوية ، بشكل يبعث على السخرية ، التي سلكها المسلمون بحثاً عن ماضيهم» كان صلاح الدين الذي يرفع المسلمون مكانته إلى مرتبة المخلص في القرن العشرين أقرب إلى الشخصية التي قدمتها المخيلة الشعبية الأوروبية في القرن التاسع عشر من أي شخصية تاريخية . كان ذلك إلى حد كبير انعكاساً لاستحواذ فكرة الحروب الصليبية على الغرب وإلى حد ما لم يشارك المسلمون أهل الغرب ولعهم بالحروب الصليبية ، ذلك أن مصطلح « الحروب الصليبية « لم يستخدم في الكتابة العربية حتى منتصف القرن التاسع عشر مثلا ، وحين حدث ذلك كان إلى حد كبير مستعاراً من أوروبا ، وقد تبلورت بالتدريج في القرنين التاسع عشر والعشرين فكرة التشابه بين سياسات أوروبا حاليا في الشرق الأوسط وسياسات الماضي في الوعي الإسلامي . وكلما تسربت القصص حول الشهرة المتألقة لصلاح الدين إلى الشرق الأوسط زادت شعبيته بين العرب . وعلى هذا الدرب قام الشاعر أحمد شوقي بعد شهرين من زيارة القيصر بالرد بقصيدة يمتدح فيها إنجازات صلاح الدين. 
ومن المؤكد أنها ليست مصادفة أن تجيء عملية « إعادة تقديم» صلاح الدين إلى العالم العربي مع التدخل الأوروبي في المنطقة ، وهو ما نكأ الجراح النفسية من جديد بعد أن ظلت خامدة عدة قرون ، وقد وضع الكاتب الباكستاني « أكبر أحمد» أصابعه على هذه النقطة ، عندما علق بقوله :»لا تزال ذكرى الحروب الصليبية موجودة في الشرق الأوسط ، وتلون الانطباعات عن أوروبا «.
يرحل بنا الكتاب المتميز إلى ملاحظة جيدة وهى : كيف دفعت شهرة صلاح الدين بإنجازات من كانوا حوله إلى منطقة الظل ؛ لم يحرر صلاح الدين القدس وحده ، ومع ذلك فوجئنا بشكل أن معظم الناس يجدون صعوبة في ذكر اسم واحد من مستشاري صلاح الدين ، أو وزرائه على الرغم من مدى تأثيرهم على نجاحه ، لقد كان صلاح الدين محاطاً بعمالقة من أصحاب الشخصيات والإمكانات وكانت – بالتأكيد – تضاهي شخصيته وإمكاناته مثل : عمه البارز شيركوه ، والذي مهد له طريق النجاح ، والعادل أخيه الحكيم ، وابن أخيه الشجاع الجامح تقي الدين ، وهناك كثير من الشخصيات الثانوية في أجزاء مختلفة من الكتاب يساعدنا كل منهم على إلقاء ضوء مختلف على صلاح الدين : عيسى الهكاري (الغامض العميق) ، وقراقوش ( التركي الذي لا يعرف عن الكتب شيئاً ) ، والعاضد ( الخليفة الفاطمي التعس) وكوكبوري ( الشجاع المفعم بالحيوية والمعروف بلقب « الذئب الأزرق») . وهناك بطبيعة الحال هؤلاء الرجال الثلاثة الذين لولاهم ما وصل صلاح الدين إلى هذا القدر من الشهرة ، كانوا الحماة الغيورين على ميراثه ، وكانوا باستثناء عائلته الأقرب إلى قلبه والأعز على نفسه ، كانوا مؤرخين ودعاة ، ومديري شؤونه ، ولم يكونوا مجرد كتبة أو مجرد شهود على التاريخ ، بل شاركوا في صنعه وأسهموا في تشكيله ، وكان الثلاثة مختلفين بعضهم عن بعض ، لكنهم تجاوزا اختلافاتهم بسبب القيم والأفكار المشتركة التي سادت في العصر الذي عاشوا فيه ، هؤلاء هم : القاضي الفاضل ، وعماد الدين الأصفهاني ، وبهاء الدين بن شداد الذين يدين لهم صلاح الدين بدين كبير . 
بأدبية راقية مشرقة وبمنهجية علمية رصينة استطاع الباحث النابه عبد الرحمن عزام في هذا الكتاب أن يؤكد أهمية الأسطورة في خدمة التاريخ بوصفها أدلة وأسانيد ووثائق دامغة تعين المؤرخ القادر على استنطاقها والنفاذ من خلالها إلى الحركة المضمرة في هذه الأنساق الشعبية مما يوسع بلا شك من آفاق البحث التاريخي ومن ثم إيجاد سبل جديدة للوصول إلى المعرفة التاريخية. قدم الكتاب سيرة تاريخية بديعة للسلطان «الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب « من منظور إنساني جديد ومدهش ، فقد زامل عبد الرحمن عزام (حفيد عبد الرحمن حسن عزام باشا الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية في قمة أنشاص ). كلا من عماد الدين الأصفهاني ، وابن شداد ليرصد لنا ملامح صلاح الدين الإنسان ، في لحظات قوته ولحظات ضعفه على السواء وفي حيوية بالغة جعلنا تشعر بالقلق ولخوف ، والغضب والفرح أحياناً مع صلاح الدين وكأننا وقوف إلى جانبه أو جالسون في حضرته أو مصاحبون له في ميدان القتال . وتختلف بالضرورة الزاوية التي نظر منها المؤلف إلى موضوعه عن الزاوية التي ينظر منها الآخرون ، وأنا منهم بطبيعة الحال . بيد أن هذا لا يعني أن هناك زاوية أفضل من الأخرى 
أما الترجمة فقد حاول المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم الذي أمضى عمره الأكاديمي في دراسة الحركة الصليبية قدر الطاقة أن ينقل لنا النص الأصلي في لغة عربية سلسلة وبسيطة مع الرجوع إلى نصوص المصادر التاريخية الأصلية التي استعان بها المؤلف ؛ وذلك بغية تعريب النص بصورة كاملة قدر الإمكان .

٭ كاتب واكاديمي مصري

عمرو عبد العزيز منير