التعايش مع كورونا

جمعة, 2020-04-17 19:49

بقلم: د. عبد اللّه بيّان

الحديث المتكرر عن استشراف "العالم ما بعد كورونا"، وكأن فيروس (SARS-CoV2) سيتم انحساره غداً أو بعد غد، مسألة تؤشر لخطأ في استيعاب البعد الصّحي لهذه الجائحة. وتؤدي بالنتيجة إلى قراءة مختلّة لبقية أبعادها وتأثيراتها الاقتصادية والسياسية المستقبلية.

في تقرير له أول أمس، قال مجمع المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة (NIH)، إن لقاحاً لفيروس كورونا سيكون جاهزًا لعمال "الخطوط الأمامية" قبل الخريف، ولعموم الشعب الأمريكي في ربيع 2021 (أي بعد عام). وهو ما يعني أن وصول هذا اللقاح بأسعار مقبولة وبكميات كافية لشعوب العالم الثالث سيتطلب 6-12 شهرًا بعد ذلك على الأقل.

طبعًا، هناك دول عديدة، غير الولايات المتحدة، تعمل على تطوير لقاحات هي الأخرى لنفس الفيروس، ولكن التجارب السريرية لفعاليّة ومخاطر أي لقاح من هذا النوع تتطلب عادة حوالي 18 شهرًا. وفي ظل تسريعها في الظروف الحالية لن يكون أي منها جاهزًا للاستخدام العمومي قبل عام في الغالب. هذا يعني أن الحديث عن ما بعد كورونا يُفترض أن يسبقه الحديث عن فترة التعايش مع كورونا، خلال السنتين القادمتين على الأقل. واستيعاب تلك الفترة بأبعادها وتغيّراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هو المنطلق السليم لأي قراءة استشرافية صحيحة للواقع المحلي والدولي ما بعد هذه الجائحة.

ويمكن القول باختصار، على المستوى الدّولي، إن المضاعفات الاقتصادية الناجمة عن تفشّي البطالة والضغط على الخدمات العمومية والانكماش الاقتصادي ستؤدّي إلى عجز في الموازنات المالية لأغلب دول العالم. فعلى العكس من الأزمة الاقتصادية 2008، والتي انطلقت من القطاع الخاص المصرفي والتجاري، فإن أساس الأزمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا مرتبط بالعمود الفقري الرسمي لاقتصاديات كل بلد. ولن تكون خطط الأنظمة الحاكمية كافية للتغلب على آثاره الاقتصادية على الطبقات الهشّة والفقيرة. ففي أقل من أسبوعين نفدت 349 بليون دولار خصصتها الخزينة الأمريكية بشكل استعجالي لإنقاذ الشركات الصغيرة، فيما لا تزال الملايين من هذه الشركات لم تستفد من هذا الدعم، ومهدّدة بالإفلاس. (الشركات الصغيرة في الولايات المتحدة هي تلك التي يقل عمالها عن 500 عامل، وهي حوالي 30 مليون شركة).

سيؤدي حتمًا إغلاق الحدود الدّولية الناجم عن هذه الأزمة، وانكفاء البلدان ذاتيًا على إمكاناتها المحلية، إلى محاولة إعادة النّظر في أهميّة توطين الإنتاج والاستثمار داخل البلدان الصّناعية. وهو ما قد ينعكس سلباً على الصّين بشكل خاص، كقوة صاعدة يرتكز اقتصادها على التّصدير بشكل كبير. فيما ستتزايد سياسيا، في ظل هذا الانكفاء القُطري، موجة انتعاش التيارات الوطنيّة والقوميّة في الدول الديموقراطية. وسيقابل ذلك على الطرف الآخر انتعاش سياسي لليسار، يغذّيه تضاعف الهوّة ما بين الأغنياء والفقراء. وهذا الاستقطاب والتغيّرات الدّاخلية المتوقعة في ظل كورونا، وأنماط الحكم السياسي التي ستفرزها، هي التي ستحدد وجهة العالم ما بعد هذه الجائحة. والتي لن تختلف كثيرًا، باعتقادي، عن مسار التغيّرات الاستيراتيجية التي بدأت قبلها منذ بعض الوقت. والتي ستمرّ الآن حتمًا بمرحلة من ضعف التحالفات الإقليمية والمنظمات الدوليّة، والتراجع في عولمة القيم والاستراتيجيات. أو بمعنى آخر، "الجيل الجديد [ما بعد كورونا] سيكون أقل سذاجة فيما يتعلق بالعولمة" على حد تعبير وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابرييل. طبعًا، على مستوى البلدان الإسلامية، سيتواصل تقطّع أوصال المشاريع والمنظّمات القومية والإسلامية، لصالح الأجندات القُطرية والتكتلات الإقليمية المبنية على المصالح الجيوسياسية.

محلّياً، وهو الأهم بالنسبة لي في هذه الملاحظات، وبدل الاهتمام بهويّة من ستؤول إليه "السيطرة العالمية"، في واقعٍ غالبية بلداننا فيه منفعلة بالتوجهات الدّولية لا فاعلة فيها، يجب التركيز أولا على اتخاذ خطّة للتعايش مع كورنا والتقليل من أضرارها المحليّة خلال السنة أو السنتين القادمتيْن. فالتخطيط الجيد هو "أن تستشرف مخاطر وفرص المستقبل، وتواجهها أو تستفيد منها بقرارات تُتّخذ في الحاضر"، على حد تعبير الإداري الأمريكي غروفر ستارلينغ.

وفي إطار التنبيه لأهمية هذا الأمر أسجّل الملاحظات التالية:

1- التراجع الحاصل والمتوقع في أعداد المصابين بفيروس كورونا على المستوى المحلّي والعالمي ليس انحساراً بعد انتشار وبائي أدّى إلى مناعة اجتماعية (بعد إصابة 40-75% من المجتمع)، وإنما هو تراجع موجة "محدودة" تم احتواؤها بتجنّب الفيروس لا بتجريبه. وبالتالي، ومع إعادة افتتاح الحياة الاقتصادية والاجتماعية حول العالم، والمنتظرة بعد عدة أسابيع، واحتمال عودة انتشار الفيروس في بداية فصل الإنفلونزا القادم (سبتمبر)، سيكون بلدنا عرضة من جديد لخطر انتشار هذا المرض، لا سمح الله. وهذا ما سيؤدي إلى إبقاء الحدود الخارجية للبلد مغلقة أو مفتوحة بشكل محدود لأكثر من سنة. الأمر الذي ستنتج عنه مضاعفات اقتصادية ومعيشية يجب التخطيط لها رسميّا وشعبيّا من الآن بشكل مناسب.

2- أعلم بأن السلطات الصّحيّة تأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار، ولكن لا مانع من التذكير. إمكاناتنا الصحية الانعاشية (بشريا وفنيًا) محدودة جدا، وهي في حالة الذروة بشكل دائم تقريبا. وهناك فئة عريضة من المواطنين كانت تتعالج في دول الجوار أصبحت حاليا، وستظل، تشكّل في ظل حظر السّفر عبئاً مضاعفًا على المصالح الصحيّة. هذا يعني أن سياستنا الوقائية التي أثبتت نجاعتها حتى الآن ستبقى هي أفضل خياراتنا الصحية، حتى نحصل على لقاح مناسب لتحصين المواطنين، أو يتوقف انتشار هذا الفيروس حول العالم. وهما أمران يتطلبان بعض الوقت.

3- سياسياً، تميل الشعوب في أوقات الحروب والأخطار المهدّدة للكيان إلى التنازل عن بعض الحرّية لأجل الأمن. كما تشكل هذه الظروف فترة ملائمة لانتعاش الخطاب الوطني والاقتراب من أنظمة الحكم. وهذا أمر يُفترض أن تستفيد منه السّلطات الرّسمية في تعزيز الوحدة الدّاخلية، وزرع روح الإنتاجية، وترسيخ القيّم والمعاني الوطنيّة الجامعة. بدل استغلال هذا الظرف الطارئ لتطبيع تضييق الحرّيات، أو تمرير سياسات غير راشدة قد تشكّل عبئاً إضافيا على الميراث الثقيل لهذه الجائحة في المستقبل. كما يجب أن تدرك المعارضة حساسية هذا الظرف أيضًا، وتبتعد عن الحزازات والمناكفات السياسيّة دون أن يعني ذلك التّخلي عن دورها المطلوب، في التقويم والانتقاد البنّاء والمساءلة الواعيّة.

4- هذه الظرفيّة مناسبة للقيام بتحليل (SWOT) المعروف (التحديد الموضوعي لنقاط القوة، والضعف، والفرص، والتهديدات). ليس من قبل الجهات الرّسمية فحسب، وإنما أيضا من قبل الجهات غير الرسمية، من مؤسسات وأحزاب وأفراد. نبني فيه الخطط التي ترفع الهمم وتناسب التحديات. وتنطلق من كوننا نستطيع أن نأخذ بأسباب النهوض والتنمية لو اجتهدنا وامتلكنا الثقة والإرادة. فعلينا أن نستخلص العبر من هذه الأزمة، وأن نؤمن، أكثر من أي وقت مضى، بأهمية التركيز على البناء الداخلي؛ ترسيخًا لروح التلاحم والمواطنة، وأخذًا بأسباب الاكتفاء الذاتي (غذائيا وصحيا على الأقل)، هذا فضلا عن العناية بالطبقات الهشة الأكثر عرضة للمخاطر الصّحية والاقتصادية والأمنية، وخاصة أثناء الأزمات.