الصالون والقاع الاجتماعي

خميس, 2014-10-16 19:48

كل العالم وليس العالم العربي فقط يعاني ويشتكي من ازدياد عدد المشتغلين بالفن والأدب الطارئين عليه بشكل يضعفه على مستوى المضامين والصُنعة الفنية. وهو الأمر الذي حذر منه ت. س. اليوت منذ زمن بعيد. حيث أثار استغراب وحفيظة المهتمين عندما عبّر عن قلقه من بروز أدب هابط أو فن على درجة من العادية والسطحية، ناتج عن طبقة غير رفيعة. لان الأدب والفن بتصوره لا تنتجهما إلا الطبقات العليا. إذ يميل إلى ان التقسيم الطبقي للمجتمع هو المكوّن الأهم للثقافة إلى جانب الدين، شريطة ألاّ يكون ذلك مفروضاً بواسطة سلطة.
على هذا الأساس طالب بإحياء الفكرة الكاثوليكية في الدين، ونادى بتجذير الفكرة الكلاسيكية في الأدب. إلى جانب دعوته لتعميق حضور الملكية في السياسة. ولم تتوقف مطالبه عند هذا الحد، بل شدّد على أهمية الربط ما بين الأدبي والديني، بروابط وظيفية ومنهجية في إطار الغايات والمقاصد. لدرجة انه أوكل إلى الخطاب النقدي مهمة مقاربة النصوص بنقد يقوم على موقف أخلاقي، لاهوتي بمعنى أكثر تحديداً. الأمر الذي بدا مربكاً لمجايليه، باعتباره أحد آباء الحداثة، الذين يفترض بهم تفكيك العقل اللاهوتي، والانسلاخ من أوهام الوعي الطبقي.
ولم يكن موقف اليوت المستفز، إلا صدى لأفكار طبقية حول الأدب كانت متداولة آنذاك، ومنزرعة بعمق في الثقافة التي يتحدّر منها. حيث كانت الكتابة باللغة الانجلونورمانية – مثلاً – التي كتب بها توماس البريتاني، في يوم من الأيام، هي اللغة المعتمدة عند الطبقات العليا، فيما كانت الثقافة ذاتها ترتبط عضوياً بنمو الفرد أو الفئة أو الطبقة. خصوصاً عند البرجوازيين، الذين قالوا بلا اجتماعية الأدب. وأرادوا تكريس التفوق لطبقة اجتماعية على كل الطبقات، من منطلقات استئثارية تموضع المنتج الأدبي الرفيع في مداراتهم.
من الوجهة السوسيولوجية، لعبت الطبقة البرجوازية دوراً هاماً في تطور الأدب. إذ لا يمكن للون إبداعي ان يظهر وينمو إلا في ظل بنية اجتماعية. فالنصوص بوصفها شهادات، تعكس عناصر متفاوتة الأهمية في الحياة الاجتماعية. كما يكشف التحليل لروح الأدب الذي يغلب على عصر ما الحركة السوسيو- تاريخية للأنظمة الاجتماعية. وهو الأمر الذي يبدو على درجة من الوضوح عند فحص المنتج الأدبي للطبقة الرفيعة، فالأديب أو الفنان المنتمي إلى طبقة ما، حسب روجيه غارودي لا بد ان يكون عمله الأدبي متطابقاً مع قيم وأهداف وحركة هذه الطبقة خادماً لها.
من ذلك المنطلق يتفق هربرت ماركوز في (الإنسان ذو البعد الواحد) مع اليوت في قراءة النتائج، ويفارقه في فحص المقدمات والمضامين. حيث أضحت الثقافة في المجتمع التكنولوجي – برأيه (بضاعة، وحتى موسيقى الروح أمست موسيقى تجارية، أو قابلة للتجيير). بعد ان كان عالم الأدب والفن (يمثل على الدوام بالنسبة للناس عالماً متعالياً، بعداً آخر للواقع، الرفض الأكبر على حد تعبير فلسفة الجمال. إذ بات هذا الرفض اليوم مرفوضاً وامتص عالم الأعمال البعد الآخر). فقد كانت الثقافة الرفيعة ترعى استلاب الفن، بتصوره، إلى مستهل القرن العشرين. أي قبل انفجار الثورات الديموقراطية في الفن والأدب المتأتية من الطبقات الشعبية.
لقد كانت ثقافة الصالون والحفل الموسيقي والأوبرا والمسرح موجودة، حسب تحليل ماركوز (لتخلق وتوحي ببعد آخر للواقع، ولها من الخصائص ما للعيد، فهي تتعالى على التجربة اليومية وتقيِّمها). أما اليوم، فقد تمكن المجتمع التقني من إلغاء المسافة الجوهرية بين الفنون وبين ما هو يومي. بمعنى ان الأدب والفن كانا (في جوهرهما، وقبل ان يملك المجتمع والثقافة إمكانية التصالح والانسجام، استلابيين، وكانا يحميان التناقض ويمحضانه قوته. أي انهما يمثلان الضمير التعيس للعالم المنقسم والإخفاقات والآمال غير المتحققة والوعود المنكوث بها).
وهذا هو ما يفسر إصرار معظم الناس على دخول عالم الفن والأدب. فالفنان، من منظور ويستان أودن (هو الوحيد دون سواه، سيد نفسه في عصرنا هذا. وكون الفرد سيد نفسه له إغراءات لدى الأغلبية من الناس، وقد يؤدي هذا الإفتتان إلى أمل خيالي بان الإبداع الفني شيء عام، بمقدور البشر جميعاً انجازه إذا ما حاولوا، ليس بفضل ما لديهم من مواهب، وإنما بسبب كونهم بشراً). وهو ما يعني ان عقلانية النفي، التي ينطوي عليها الفن والأدب، قم تم تدميرها، بما في ذلك قوتهما العرفانية. وذلك بواسطة طبقة عريضة جداً تحاول التعبير عن النظام المختلف بشعبوانية متمادية.
ومع ظهور عصر (ما بعد الحداثة) تمددت هذه الطبقة بشكل يصعب السيطرة عليه أو الحد من طموحاته وتمثلاته الفنية والأدبية حيث أقرت فنون وآداب ما بعد الحداثة حق التعبير الشعبي، واعترفت حتى بالسوقي. فالاحتفاء بالمعنى والعمق والجوهر الذي ظل صامداً ومركزياً في فكر الحداثة، تم تدميره في فكر ما بعد الحداثة احتفاءً بالسطح. والنظرية الشمولية المفسرة للتاريخ والعلم والثقافة تم الانصراف عنها إلى الأفكار المجزأة الطارئة. وهكذا تقوضت فكرة الإحساس بالذات والهوية الواحدة، لصالح التشظي والتنوع والتعدُّد والتضاد.
كل ذلك انعكس بشكل مباشر على العمل الأدبي الذي كان يُنسج وفق معايير ويكتسب شرعيته من اكتماله، حيث أصبح العمل المفتوح هو الانموذج، فيما برز عصر القارىء أو المتلقي الذي يضيف على العمل مرئياته بمقتضى المتغيرات. ويحتكم في تلقيه إلى معاييره الذاتية. وهو ما أدى إلى تلاشي حدود النص وصفاء معالمه وغياب مرجعياته، لصالح الهلامية والهجنة، وكأن المعيارية تكمن في اللاوضوح واللاإكتمال. وذلك ضمن ثقافة ثنائية البعد، ولكنها بدون قوام، لأنها لا تميز ما بين الواقع وبين ما يمكن ان يكون عليه هذا الواقع.
وهكذا صار العالم إزاء طبقة عريضة خارج الطبقات، ومعاندة للأيدلوجيات إذا ما تم الإحتكام إلى أول دراسة في سوسيولوجيا الأدب لمدام دوستايل حول (الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية). فلكل طبقة أو أيديولوجية فكرها وآدابها وفنونها حيث كانت الماركسية – مثلاً – تلتزم بمطالب وطموحات الطبقة العاملة مقابل الطبقات الأخرى ليتمثل ذلك الإلتزام في المنتج الأدبي والفني. أما اليوم فقد صار الأدب ملكة عامة إذ يمكن لأي كاتب من القاع الاجتماعي ان يتخلى عن المعيارية الثقيلة لبيان الكتب المقدسة، ويعود بالكتابة إلى درجة الصفر، بمفهوم رولان بارت. وهذا ما يحدث في الشعر الحديث الذي يدمر علاقات اللغة ويرجع الإنشاء إلى محطات الكلام.

كاتب سعودي

محمد العباس