أفق الثّقافة العربية بين الغموض والتّسطيح

أحد, 2014-10-19 12:03

يذهب غير مفكر ودارس إلى أن الثّقافة العربية في أزمة لعدة عوامل، أهمها، ما يتصل بتكوين الثّقافة عينها، إذ هي أقرب إلى منتج قلق، يدين لمرجعيات متعددة، ومتباينة، مما ينعكس بدوره على الخطاب، ومسلكه التّواصلي بين قمة الهرم ممثلة بالمثقفين، وبين القاعدة التي تمثلها العامة. هذه الفجوة تعود لطبيعة الاشتغال الثقافي الذي بدأ يقترب من كونه منتجاً إعلامياً تواصليّاً، ومن سماته السّيولة التي لا تتيح نضجاً على مستوى الأفكار، مما جعل الثّقافة العربية أقرب إلى مكون سطحي ساذج، ولكن في المقابل هنالك من يرى أن الثقافة باتت أكثر تعقيداً؛ نظراً لامتلائها، وتشعب مسالك بحثها نتيجة أزمات الإنسان العربي المعاصر الذي تتنازعه عوالم افتراضية، وواقعية، وويلات، وحروب وأزمات اقتصادية، وكوراث وبائية، وإرهاب، وأنظمة ديكتاتورية…. ، ومن هنا نواجه معضلة تتمثل بكيفية وصف، وتحليل منتجنا الثقافي باختلاف تمظهراته، وأشكاله، وأعني أدبياً، وموسيقياً، وسينمائياً، ودرامياً، وفنياً…، ومدى ما يتمتع به من قدرة على التّأثير، بالتّضافر مع التّعبير عن خصوصيتنا العربية، واجتراح حلول لأزماتنا المتكررة، وخاصة في عالم بات أقرب إلى المجانسة والتّماثل- على الرّغم من الانفتاح وسعة قنوات التواصل، والتّعبير- ولاسيما من حيث المنظور، والمقاربة. هذا يدفعنا إلى المزيد التّبسيط والاختزال لمعاني وجودنا التي بتنا نتشاركها (افتراضياً)، ولكننا على المستوى الواقعي، فنحن منعزلون وتائهون وأنانيون، ونكاد لا نجد صيغة واحدة تجمعنا. هذا الموقف دفع بعض المثقفين إلى اجتراح الغموض بوصفه عمقاً، أو سحراً، أو ربما موقفاً لمواجهة هذه السّيولة من السّطحية، والظاهرية التي تميز كافة مناحي وجودنا. وربما يكون هذا الغموض المتعمد مظهراً من مظاهر الإفلاس، وعدم القدرة على الوقوف على الأزمات، واجتراح الحلول اللازمة، مما ينتقص من القدرة على التواصل، والتأثير في الجماهير التي ينبغي أن تتبع المثقف، والمفكر. 
إن المتتبع للمشهد الثقافي العربي سوف يجد أن الخطاب الثقافي العربي، يتسم بتباين كبير حيث إن منتجنا الثقافي، إما أن يكون في مبناه، ومعناه أقرب إلى الغموض غير المستحب، والممجوج، بحجة أنه يمتثل لشروط الجدّة والعمق، وهذا أحاله إلى أن يتحول إلى إبهام حقيقي، كونه موجهاً من النخبوي إلى النخبوي، بينما السّواد الأعظم من منتجنا الثقافي سطحي، ومبتذل، وشائع، بل يكاد يكون مُتهافتاً، وعلة ذلك تجاسر كل من شاء على الاشتغال بالثّقافة، والإبداع، ولاسيما في زمن توفّر المنصات الافتراضية التي تتيح الأداة، والشكل لمن أراد، أو شاء. هذا التكوين أفضى إلى وضع غير صحي للثقافة العربية التي تقترب من فقدان خصوصيتها، وصوتها، بل إنها تكاد تتلاشى نظراً لانفصام وانخلاع المفاصل التي تصل بين القاعدة والهرم، بحيث أضحى لدينا طبقتان من الثقافة، كلتاهما بمعزل عن الأخرى، ونعني ثقافة النخبة التي تعيش اغترابها، بوصفها أقرب إلى متوحدي ابن باجه، أو كما يطلق عليهم النوابت، بينما هنالك ثقافة لا تمكث، ولا تستقر كونها غير مؤثرة، فهي أشبه بتمضية وقت لمن يملك فائضاً من الزمن، أو يعاني من أوهام، أو أعراض الثقافة. 
تذهب الكثير من المعاجم الفلسفية إلى إحالة الغموض إلى التعقيد على مستوى الكلام، بل تكاد تقصره على اللغة، في حين أن الغموض هو مظهر، أو قيمة مطلقة، يمكن أن تتخلل كل ما يحوط بنا، إن كان على المستوى المادي أو المعنوي. ولكن إشكالية الغموض تتحدد من حيث كونه يرتبط بالذات، أو بالموضوع، فالغموض يأتي بوصفه انعكاساً، ولاسيما على الذّات البشرية التي تستشعره في الأشياء المحيطة، وأبرزها اللغة، أو الكلام، واللذان يمثلان قيمة وممارسة يومية لصيقة بالإنسان. هكذا يتحدد الغموض الناتج بفعل التعقيد بمستويين :لفظي ومعنوي، الأول يختص بالتّنسيق التراتبي للكلام، في حين يختص الثاني بفعل الانتقال الذي يكون على مستوى المعنى، والفكرة، وسبل المعالجة، وهنا يمكن أن نتخذ هذا التكوين مدخلاً لمناقشة سلوك الثقافة، والعاملين عليها، من منطلق انحسار الثقافة بوصفها قيمة حضارية نتيجة أزمة الأفكار، وندرة المفكرين، أو انحسار دورهم المؤثر نتيجة بروز قيم، ووسائط تفاعلية أكثر جاذبية، وسرعة، وسهولة، علاوة على ما تتصف به من قدرة على تجاوز الحدود، والرقابة نحو حرية مطلقة، غير أن الناظر إلى المنتج الثقافي سوف يجد صورة باهتة لثقافة استهلاكية، لا تستقر، بل لا تكاد تتبلور حتى تتلاشى. هذا النسق يستوجب منا البحث عن عامل إضافي، نعلل فيه هذا التّهافت الثقافي في عالمنا العربي الذي يبدو شديد العزوف عن إدراك ذاته بكل ما تنطوي عليه من إشكاليات، فالنخبة المثقفة غير قادرة على تبسيط ما تعتقد أنها تمتلكه، أو أنها لا تمتلك أداة العصر الجديد من حيث قدرتها على التأثير على العوام، أو أن صوتها قد تلاشى في زمن الازدحام التّعبيري التواصلي، فالإنسان العربي بات معنياً أكثر بفعل الاستهلاك الثقافي للغة على حساب الوعي بالمشكلة، وقيم التغيير. 
إن من أشد الملحوظات التي يقف عليها المراقب في تتبع العزوف عن الثقافة بوصفها قيمة راقية، ما يتردد لدى الإنسان بتكوينه البسيط من أن الثقافة لم تعد تكويناً خاصاً، وفريداً، ونظراً لأن الثقافة شيء معقد، وغامض، مما يجعلها أقرب إلى دائرة الاختصاص، مما استوجب من المثقف الانعزال عن الثقافة الجماهيرية بحجة الأكاديمية، إذ هو يصطنع لنفسه ذاتاً متعالية، ومن أجل ذلك يمارس نمطاً من التعقيد اللغوي، أو المعنوي من منطلق رفض التّماهي والتماثل بمنتج الجماهير، أو ربما لنضوب رؤيته عن إدراك المشكلة والحلول، أو تبعاً لقصور الفكر؟ هذا النسق أتاح لبروز ثقافة التّسطيح، والاستهلاك المفرط نتيجة سيولة المعرفة، والتواصل، وكي تبدو الصورة أكثر وضوحاً، نستعين بمثال بسيط، ويتمثل بأرض تشققت بفعل الجفاف، وبهطول الأمطار، يتسرب الماء إلى عمق الأرض التي تمتصه سريعاً ليكون سبباً للإثمار والعطاء، ولكن عصرنا أشبه بمستنقعات من الماء، والأراضي الرطبة التي يتكاثر ماؤها دون أن يجد سبيله لعمق الأرض، فيأسن بمرور الوقت.
وفي سبيل مقاربة هذا التّحول على مستوى بنية الثقافة، نتخذ من الممارسات الإبداعية نموذجاً، وتحديداً الكتابة الشعرية التي أضحت نسقاً مستمراً من السّيولة اللغوية، والاستهلاك الكتابي الذي أدى إلى زهد التلقي، وهذا يعود إلى ضمور البنى الفكرية الموجهة، وتراجع القيم الجمالية القائمة على التخييل التي عدها الناقد أ. رتشاردز أهم سمات الشعر، وهكذا نخرج من مبدأ المسألة إلى مبدأ الهذر، فالكتابة الشعرية والإبداعية المعاصرة، تكاد لا تنطوي في تكوينها الحالي على أية إضافات نظراً لاختلال الرؤية، وعدم القدرة على فهم الواقع الذي امتزج بالافتراضي. 
وفي زمن أضحت القيم نسبية، حيث يمكن للكل أنْ يبرر الأشياء، فالأصولي والليبرالي واليساري واليميني، والمحافظ… بات قادراً على استقطاب من يشاء من أتباع، وذلك نتيجة التّواصل السّريع، ورحابة الافتراضي، إذن، فالكل قادر على المساهمة في الجدل الدائر حول أية قضية، حتى أن ربات البيوت بتنَ قادرات على التعبير عن مواقفهن في شتى مناحي الثقافة. هذا المسلك أفضى إلى أنساق لتسطيح الفكر، ومن هنا بات المفكرون في حيرة من أمرهم، وكذلك الكتاب والمبدعين الذين اتخذوا موقفاً يتمثل بالتّعالي، كي لا يتنازع، وتؤول العامة أفكارهم، وقيمهم الإبداعية والثقافية، ومن هنا تم اللجوء إلى معطى الغموض والإبهام، وهذا أدى إلى أن يتكون لدينا نمطين من المنتجات الثقافية، أو لنقل سوقين، أسواق العامة الافتراضية السّطحية، والمبتذلة، ووسيطها عالم افتراضي، وأسواق النّخب الغامضة، والأخيرة وسيطها بعض المجلات التي لا تقرأ، وهي بالتالي لا تؤثر على أي كان، ولا حتى على صانع القرار، كون المثقف بات منعزلاً، وليس لديه أتباع، ولا يمارس سلطة قيادة العامة، التي لا تعبأ السلطة بها هي الأخرى، كون ما تتداوله، أو تنتجه من ثقافة أقرب ما يكون إلى نفاية لغوية، لا يمكن أن تؤدي إلى أي تحول، وبين هذين المستويين من الغموض والسّطحية الثقافية، يراوح العالم العربي دون إحداث أي تغيير أو تقدّم، كون هذا النسق هو الذي بات يتحكم في أنظمتنا الفكرية والعقلية والحضارية !

٭ كاتب وناقد فلسطيني/ الأردن

رامي أبو شهاب