ثقافتنا الأخرى

أربعاء, 2014-10-22 12:03

 أقصد ب غير الثقافة العربية ـ الإسلامية، قديمها وحديثها، التي يشتغل بها الآخر ـ الغرب، ويقدمها من خلال رؤيته الخاصة إلى القارئ الأجنبي على أنها الثقافة العربية ـ الإسلامية. إنها ثقافتنا منظورا إليها من زاوية غير الزاوية التي نتعامل بها معها.
إنها ثقافتنا بمعنى أن التصورات التي كوناها عنها صارت مختلفة عندما تم النظر إليها من خلال ثقافة أخرى متميزة عن رؤيتنا وتاريخ قراءاتنا. وتبعا لذلك أرى أن ثقافتنا تتجسد من خلال رؤيتين متمايزتين: ذاتية وغيرية. إن الرؤية الأولى هي رؤية الذات المطمئنة إلى نفسها إجمالا. نتحدث عنها ونتناولها بالدرس والتحليل، تماما كما نتعامل مع ذواتنا الخاصة، بنرجسية متعالية أحيانا كثيرة، وبنقد وعنف حينا آخر. وفي الحالتين نظل نتوهم أننا نعرفها حق المعرفة، إلى الحد الذي نذهب فيه إلى أنه ليس بالإمكان أن نفكر فيها بطريقة مختلفة عما ألفناه، بل قد يصل الأمر إلى الاقتناع أو الإقناع بأن بعض قضايا هذه الثقافة أشبعت درسا، وقتلت بحثا، ولا مزيد لمستزيد.
أما الرؤية الثانية الأخرى، فهي قلقة أبدا، متوترة ومتجددة دائما، لأن وراءها مسعى واحدا هو تحصيل معرفة عن تلك الثقافة الأخرى. بين الرؤيتين اختلاف في زاوية النظر والموقف، هو الاختلاف نفسه بين الذات والموضوع.
في علاقتنا بثقافتنا، كما يشتغل بها الآخرون، كنا نتخذ أبدا أحد الموقفين: الرفض لأغلب تلك الكتابات على اعتبار أنها متحيزة، وقبول القليل منها بصفته منصفا وينتصر لقضايا الثقافة العربية ـ الإسلامية. تبدو هذه العلاقة بوضوح في كثرة اهتمامنا بكتابات المستشرقين، وبذل مجهودات كبيرة للرد عليهم وتسفيه آرائهم.
يمكن اعتبار موقفنا من مسبقا وجاهزا، لذلك لا نلتفت إليها إلا بهدف الرد عليها، وتصحيح أخطائها، أو الثناء على ما نراه منها متلائما مع رؤيتنا الذاتية. إن هذا الموقف، بصورتيه، يحجب عنا حقيقة لم نلتفت إليها في خضم الصراع الإيديولوجي بين الرؤيتين. تتعلق هذه الحقيقة بآلية التفكير التي ينتهجها الآخر في طريقة تشكيله صورة عن ثقافتنا. إننا نلتفت أكثر إلى النتائج التي ينتهي إليها، لكننا لا نهتم بالمنهجيات التي يتبعها في ذلك. إن عدم الخوض في النقاش المنهجي يجعل مواقفنا منها جاهزة ومسبقة. ولهذا السبب تأخرت رؤيتنا المنهجية، وتقلص وعينا بالمنهج وتطويره في كيفية تعاملنا مع ثقافتنا، من جهة، ومناقشة من جهة ثانية. وقصور اهتمامنا المنهجي، عند الأخذ بأسبابه في التناول والنقاش، لا يمكنه إلا أن يكرس لدى من تقدم إليهم هذه الثقافة على أنها الثقافة العربية ـ الإسلامية. هذه الثقافة لا نترجمها لنتعرف عليها، بل إننا لا نعرفها لأن مواقفنا موجهة ومسبقة بصددها.
لا يظهر لنا هذا فقط في الدراسات والتحليلات التي ينجزها الآخر عن ثقافتنا، بل إننا نجده، أيضا، في جانب آخر من ثقافتنا، وقد صارت الأخرى، حين تقدم للقارئ الآخر. أقصد هذه المرة النصوص الأدبية العربية الحديثة التي تترجم إلى اللغات الحية. إننا بقدر ما نضجر من الدراسات التي تتناول تراثنا من منظور مغاير لما ألفناه، نبذل كل غال ونفيس، ونعمل بشتى الوسائل لترجمة إبداعاتنا إلى اللغات الأجنبية. كيف يتلقى القارئ الأجنبي «إبداعاتنا الأخرى»؟ كيف يتفاعل معها؟ لا نطرح هذه الأسئلة. تكفينا النتيجة: الترجمة. ويظل البعض يفتخر بأن أعماله مترجمة إلى كذا لغة أجنبية؟ ما الفائدة إذا لم تكن «إبداعاتنا الأخرى» ذات أثر في الساحة الثقافية الأخرى؟
عندما ترجمت ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان لها وقع الزلزال في الآداب الغربية. وصارت منذ ذلك الوقت إلى اليوم أثرا أدبيا إنسانيا، يتم تناوله بالبحث والدراسة سنويا في أعرق الجامعات العالمية. ماذا نعرف عن هذه الدراسات؟ كم ترجمنا منها إلى اللغة العربية؟ ما هي مواقفنا منها؟ بأي المناهج يدرسونها؟ كل هذه الكتابات الأجنبية عن الليالي، وهي فقط للتمثيل، جزء من ، لكننا لا نوليها أدنى اهتمام، إننا نعتبرها «كتابات أجنبية» (استشراقية) عن تراثنا؟ 
تضم العديد من المكتبات الإلكترونية الأجنبية نصوصا من تراثنا على أنها جزء من تراثهم، مثل القرآن الكريم، وكليلة ودمنة، والليالي، ومقدمة ابن خلدون، ورحلة ابن بطوطة، إلى جانب نصوص أخرى من ثقافات متعددة. إنهم يفعلون ذلك من تصور أن التراث الإنساني ينبغي أن يكون جزءا من مكونات أي ثقافة خاصة. هذه الرؤية الإنسانية للثقافة وليدة الانفتاح لا الانغلاق الذي يطبع علاقتنا بثقافة الآخر. إننا فعلا ننفتح على ثقافة الآخر، ونترجم إلى العربية العديد من النصوص المنتمية إلى ثقافات متعددة في القديم والحديث، لكن هذا لا يكفي ما لم نقم بدراسة هذه الأعمال وتحليلها كما يفعل الآخرون بصدد ثقافتنا.
ليست فقط ما يشكله الآخر عنا. ولكنها أيضا ما يمكن أن نشكله عن ثقافة الآخر، لتصير جزءا من ثقافتنا. وبذلك يحصل التفاعل الثقافي الحقيقي الذي يجعل الذات أخرى.

ناقد مغربي

سعيد يقطين