بين «الشكولا» والفول المدمس

خميس, 2014-11-06 18:13

مثل إعلانات الوظائف الغريبة التي تشترط أن يكون عمر المتقدم للوظيفة بين 20 و25 سنة مع خبرة أقلها خمس سنوات، تنهال علينا الأخبار الفنية عن جيل كله أقل من خمس وعشرين سنة، بخبرة لا تتجاوز مجازا خمس سنوات، بما في ذلك من أوقفوا عمرهم عند هذا الرقم، مع التحفظ عن ذكر الأسماء.
لست ضد أحد، فالعالم واسع، ومجال الإبداع لا حدود له، وجمهورنا منوع، لكن على ما يبدو أن الفكر الحر الذي يعمل بتقنيات التنّوع لم نمتلكه بعد.
على عشرات الفضائيات العربية، يتابع جيل بأكمله تجاوز الأربعين عاما أخبارا واحدة. جيل الخمسينيات والستينيات جيل لا نعير له اهتماما بتاتا، والأغرب أن من يظن أن الأجيال الشابة تحب برامجنا العربية فهو مخطئ ، فأبناؤنا اليوم من الخليج إلى المحيط، عيونهم مصوبة نحو كل ما هو أجنبي.. حتى هيفاء وهبي بكل أنوثتها الصارخة وأليسا بكل دلالها ونانسي بخفتها وأخريات، لا يعنين للجيل الشاب شيئا أمام بيونسيه، بكومة جوائز الـ»غرامي» التي حصلت عليها، أو ريهانا أو سيلينا غوميز أو حتى أديل بكل بساطتها وغيرهن كثيرات يضيق المقام لذكرهن.
عذرا أذكر الأسماء النسائية لأنها مع احترامي للجميع أصبحت اليوم «الفاست فود» الذي يقدم سريعا لفئة معينة من المشاهدين. يعرضن كقائمة المأكولات في مطعم يعج بفقراء الذوق. من تلك المطاعم التي حتى النادلين فيها يتعاملون مع الزبائن وكأنهم عمّال جمعية خيرية في بلد يأكله الفقر.
برامج أخرى تعتمد على المواهب التي تحلم بالشهرة، وقبل بلوغها هذا الحلم يتعين على سيل من الحالمين القادمين من كل صوب وحدب أن يملأوا فضائياتنا شبه الفارغة بهفواتهم المثيرة للضحك… يأتي البعض محملا بأحلام تفوق قدراته، فيقف أمام الكاميرا ويهرّج بما لديه، إما ارتباكا أو إفلاسا.. تضحك لجنة التحكيم حتى الانبطاح، وما تخفيه الكواليس أعظم، ونحن أيضا نضحك حتى البكاء أحيانا، لأننا لا نجد بديلا يرقى بنا لما هو أجمل من «السخرية» على شبان لا يعرفون أنهم ليسوا أكثر من مادّة تلفزيونية غير مكلفة حتى لا أقول «رخيصة».
صحيح أن هذا النوع من البرامج منتشر في التلفزيونات الغربية، لكننا بالمقابل نجد عند الغرب برامج تهتم بجمهور كبير صقله النضج، ولا يمكن شدّه للشاشة فقط بالأجساد الجميلة و»المضحكات المبكيات» التي نتناولها نحن كما يتناول البعض المخدرات. نسهر على برامج فخمة تستضيف أزنافور مثلا، أو ميراي ماتيو أو خوليو إغليزياس، أو غيرهم من العمالقة، ونتأسف لأن كنوزنا العربية، نودعها دهاليز النسيان ونستثمر فقط فيما يثير شهوتنا الآنية. 
نحن شعوب تعشق تدمير ذاكرتها وإلاّ لماذا يغيب الكبار عن مسارحنا، ومهرجاناتنا وتلفزيوناتنا، لماذا لا نرى سهرة كاملة مع الرّائعة هيام يونس من دون أن يحشر معها الصغار، ومُهرّجو السياسة في برامج لا تليق بمسيرتها الفنية الضخمة؟ 
لماذا لا نراها وهي التي لا تزال تقف على المسرح لأكثر من ساعة وتغني بالصوت نفسه الذي لم يتغير منذ أربعين سنة؟ لماذا لا نمنحها فرصة لتحكي عن الزمن الجميل الذي عاشته؟ عن تجربتها وهي طفلة في الرّابعة تغني لأم كلثوم؟ عن شهادة صادقة على العصر وتغيراته… لماذا لا نعطي لها الكلمة، هي التي منحتنا الكثير حين كنا صغارا، وصقلت ذائقتنا؟ 
أليس مؤلما أن نرى الصبُّوحة تُجَرُّ من مكان لمكان لاستعراضها كشجرة ميلاد في آخر موسمها، تحكي بصعوبة، وتتحرك بصعوبة، ونتعب ذاكرتها بالأسئلة الجارحة والمحرجة، من دون أن يُقدم لها ما يحفظ كرامتها فعلا، فيما من هم قادرون على العطاء نمنحهم عطلة إجبارية حتى ينهش الفقر والذل عظامهم.
صحيح أن هيام يونس تعيش محترمة في بيتها، ولديها أقارب يحيطون بها مثل ملائكة تحرسها، ولكن من واجبنا أن نسأل عنها ونقدمها لجمهور يشتاقها ولا يعرف حتى إن كانت حية أو ميتة. 
نعم حدث أن أحيت مهرجانات متباعدة في عواصم عربية، لكن أليس غريبا أن أُسأل في عقر بيروت: هل لا تزال هيام يونس طيبة؟ 
لماذا لم يهتم الإعلام العربي بنجاحات هيام يونس في هذا العمر؟ أقسم أنها مثل السندريلا، كما ألفناها منذ كنا أطفالا… أقسم أنها سفيرة الأغنية العربية بامتياز وأنها يجب أن تعامل معاملة أرقى. 
هل تسمعني يا كاظم الساهر؟ لعلّك الوحيد الذي قد يفهم عبارتي هذه…
نعم يا جيلي الجميل، يا جيل «تعلّق قلبي بطفلة عربية» هيام لا تزال طيبة، الله يطول عمرها، ولا تزال معطاءة… لا تزال مشرقة، مبتسمة، تحفظ الشعر العربي القديم والموزون، وتكتب أشعارا جديدة، تُلبِسها ألحانا جميلة، كما لو أنها كائنات يجب ألا تظلّ عارية. 
سميرة توفيق أيضا لا تزال طيبة، تعيش في عزلة تامة ربما اختارتها بملء إرادتها، لكن هل تستحق منا كل هذا التهميش، هي التي صنعت جزءا كبيرا من بريق الزمن الجميل للفن. كيف لذاكرتنا أن تنطفئ وجيشٌ من بنات العرب اللواتي وُلدن حين بث مسلسل «فارس ونجود» أيام السبعينات يحملن اسم «نجود» تبرُّكا بجمال وسحر سميرة توفيق، صاحبة الغمزة الشهيرة التي كسرت قلوب الرجال…؟
من أذكر لكم أيضا؟
عاد وحيد جلال مؤخرا إلى الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل «سليم 3» ولم يكن دوره رائعا فقط لأنه كان أكثر من ممتاز، أبدع فيه بكل جوارحه وأعادنا بصوته الفخم إلى طفولتنا، أعاد لنا البراءة التي فقدنا أغلبها بسبب الزمن الأسود الذي نعيش فيه، والغريب أن كل الذين يُطَبِّلون بقضية «حماية اللغة العربية» لم يحتفوا بعودة بطل طفولتنا، صمتَ الإعلام العربي وكأن الرجل يرتدي طاقية إخفاء… مع أن أغلب المسؤولين على برامج وصفحات الفن في إعلامنا السمعي البصري والمكتوب من جيل «غرندايزر» و»سلفر» جزيرة الكنز، وعلى بابا وسندباد. كم هم كثر أبطالنا في تلك الحقبة، حين كانت مسلسلات الرسوم المتحركة تؤخذ من الأدب العالمي وتعلمنا اللغة العربية الفصحى بأذكى طريقة وجدت على الأرض، ولكن مع هذا نحن مخيبون للآمال، أولينا وجوهنا عكس كل تلك الأصوات التي أبهجتنا ونحن صغار، وأصبحنا ننتج ونقدم برامج لمشاهد افتراضي، نفصله على مقاسات ومعطيات بعيدة تماما عنّا.
إنه الإلغاء التام لذواتنا.
إن لم ننتج برامج لمتعتنا الشخصية كجيل تربّى على نتاجات العمالقة، فهذا يعني أنّنا جيل فاشل، لم يعرف أن يستفيد من التجارب العظيمة التي قدمت له من جيل نحت الصخر بأظافره لينتج روائع بكل أنواعه في القرن الماضي، وإننا إلى اليوم لدينا مشكلة كبيرة للمزج بين النظري والتطبيقي… مشكلة كل عربي، مرض الإزداوجية المقيتة التي تجعلنا أشخاصا نكره ونحب الشيء نفسه، نحب الفول المدمس والخبز الساخن مع بصل طازج وزيتون وفجل، ولكننا نفضل قضم الشكولا حتى لا نُتّهم بالتخلف..
بالطبع الشكولا لذيذة وطيبة، ولكنها ليست وجبة دسمة ليبقى متناولها واقفا على قدميه.
هذا هو الحال، وللحديث بقية إن شاء الله.

٭ شاعرة وإعلامية بحرينية

بروين حبيب