موريتانيا المتحولة! د. دداه محمد الأمين الهادي

أربعاء, 2014-11-12 17:23

تبتعد موريتانيا شيئا فشيئا، وبخطى حثيثة عن الثابت في سياستها، وتاريخ مؤسساتها الاجتماعية، والراسخ في نقاشاتها ومسلماتها الفقهية، والدينية، وتتناسى عن وعي باللحظة الحاضرة روافد هوياتها الحضارية، فهي تتجسد بمفهوم حداثي جديد، ومبتدع، وتفسخ عنها طابع التقليد الأعمى، وتتنكر لتمظهرات الفكر المستعاد، فبنية الثقافة الموريتانية وصلت إلى مرحلة ذوبان الجليد، والنصوص كلها صارت موضوعا للنقاش، وسلطة القبيلة والزعامة التقليدية أخذتا طريقهما للزوال، فالواقع الحالي يجزم ببزوغ موريتانيا متحولة، ليست بموريتانيا مستعادة، أو مصورة فوتوغرافيا من مرحلة سابقة مرت بها أمتنا الموريتانية.

ومن المؤكد أن البنية الاجتماعية، والتنظيم الاجتماعي آخذان في التلاشي، فميزات تقليدية سخيفة في هذا البنيان ستختفي تماما، بقوة الواقع، كما هو الحال بالنسبة للعبودية، وزعامة القبيلة، فالعبودية نقطة سوداء على ضمير البشرية منذ الإغريق والرومان، وهي تحول صعب في تاريخ علاقة الإنسان بالإنسان، حيث يتساوى فيها البشر مع الأشياء، فيتم امتلاكه، ويتاجر به، ويستغل، ويستعمل، ويتصرف فيه، وهذا كله امتهان لإنسانيةالإنسان، ومن الطبيعي أن لا يجد مكانا في موريتانيا المتحولة عن الأنماط البدائية.

وأما زعامة القبيلة فكانت هي الأخرى مرتبطة بالاستقرار المكاني، وعاطفة الجماعة، وهما ميزتان اختفيتا تقريبا بين أفراد القبيلة في موريتانيا، حيث تنم الحالة العامة بحلول شبه تام للدولة مكان القبيلة، ووعي الناس بوهن القبيلة وضعفها في مواجهة مجسم الدولة بجيشه وسلطاته وسطوته  جعلهم يحسبون حسابات خاصة للأخيرة على حساب الأولى.

وإذا كان الموريتانيون صبوا قوالبهم الثابتة في الأحزاب والجمعيات الأهلية، فإنهم سرعان ما كرروا أنموذج الطبقية بشكل حداثوي (حديث)، فصارت الأحزاب هي الأخرى ثابتة اللجنة التنفيذية، وأحيانا ثابتة المنتسبين، وهذا الأمر يبدو حاليا في طريقه للتحول، فحزب الاتحاد من أجل الجمهورية كان بداية لهذا المنعطف، الرامي إلى تغيير القيادات الحزبية، وهو ما أحرج فلول المعارضة، فدبت بها الحياة، وبدأت تتغير، وبحكم الزمن سيتغير الكثير برغم حرص مسعود على المبادرات، وهو في زمن متأخر من التشبث بالذات، حيث الأولى به ترك قيادات شبابية تتولى دفة القيادة في التحالف الشعبي، فيما يجلس هو جلسة المرشد الروحي في مكان يختاره لذلك.

وإذا كان الموريتاني عموما مولع بهجر "الهرمنيوطيقا" فن التأويل، فإن جحافل المتأولين والحداثيين بدأت حربها على الفهم الثابت، وإن جوبهت بقامعي النصوص، وحراسها لخدمة السلطة، التي ركزت على توجهات الجبر ضد الاختيار، وهنا لا ننسى أن الفتاوى التي كانت مع المتغلب بالقوة سقطت، أو أسقطت، ودقت المسامير في نعشها، ولم تعد من المقدس، وهذا كان تحولا كبيرا في الفقه السلطاني، وأدى إلى نجاح الربيع العربي في إنهاء الحكام، ولا تهمنا هنا نتائج ذلك الصيف العربي.

إننا نعيش اهتزازا مجتمعيا عاما، وخلخلة شعبوية متسعة النطاق، لا يقف العقل منها موقفا موحدا، ولذا بمجرد فتح الإعلام الوطني يلاحظ المتتبع نقاشات مستميتة في القضايا التي كانت محرمات دينية واجتماعية، فلم تعد هنالك تابوهات محظورة وممنوعة من تدخل العقل في مجالها.

وإذا كان شيوخ المجتمع في الماضي كانوا بمثابة القفل المختوم به على أفواه الشباب، فإن هذه القاعدة هي الأخرى متحولة، والشباب صار متمردا على الكثير من كهنوت الكبار، خاصة في عالم السياسة، والقبيلة، ومسلكيات التنظيم الاجتماعي.