ثمار الندم

أربعاء, 2014-11-19 14:10

ترتسم حياته أمامه، أحياناً، مثل ظلال محلّقة بأجنحة رقيقة واسعة، سريعاً ما تحطُّ على الضفاف الزلقة، تمسّد أجنحتها بأعناقها الطويلة ثم تطويها بحركات محسوبة متأنية، تتحسَّس مواطن أقدامها مثل طيور حذرة، تخطو خطواتٍ قليلةً متمهلةً قبل أن تتركّز في قاع أيامها، عندها تفتح عيونها الدقيقة اللامعة، تنظر من حولها متأملةً وقتها الأرضي..
وقت متغيّر له قوام، صلب ثقيل أحياناً، هشٌّ رقيقٌ أحياناً أخرى.
إنها تتكثّف في اللحظات التي تنظر فيها فتتكشّف ملامحها شيئاً فشيئاً، كأن النظرَ يُعينها على أن تكون.
لن يصعب على الرجل، وقت ارتسام الظلال، إدراك ملامحه فيها، صلة خاطفة مثل خطوط واهنة خلّفها القلم الرصاص، على الرغم من كونها ظلالاً ذات أجنحة، هي وليدة مادتي الحقيقة والخيال، حقيقة الحياة التي لا تخلو من عجب والتباس، وخيالها الذي يجعل من الحياة نفسها أكثر رحابة، أعلى عنفاً أحياناً وأشدّ قسوة، إنها ظلالي المسكونة بِحيَرة الهوّة الفسيحة بينهما، يحدّث الرجلُ نفسه، هي ابنة الحقيقة مرّةً، عليّ أن أقول ذلك، وابنة الخيال مرّات، كأن بخاراً كثيفاً يتصاعد أمامها، يمنع عنها انكشافاً كاملاً ووضوحاً ناجزاً يمكّنها من أن تُعدَّ ابنةً خالصة لواحدة منهما.
ما أعرفه من حياتي وما أسعى لمحادثته والحديث عنه لن يكون أبعد من تجلٍ وانكشاف، معرفة تبصّر يُدرك المرءُ معها أن حياته ليست هنا، ولن تكون، بأية حال، حبيسة زمان ومكان معلومين، هما سجنها وعلّتها، ليلها ونهارها، نارها وفردوسها، إنها الكلمة الأبعد وقد خلّفت أثرها في روحه منذ كتب ذات يوم بعيد على صفحة أخيرة من صفحات دفاتره المدرسيّة «هذه الحياة ليست حياتي»، ليكون كلُّ ما بعدها موصولاً بها، ينبثق من ثغرة عميقة في جدارها ليدور دورته الدنيويّة الواسعة ثم يستدير عائداً نحوها.
كلُّ ما كان سيغدو برهاناً على أنها ليست لي، هبة الحياة العزيزة النادرة، لكنني أؤديها بتفاصيلها الدقيقة المحكمة وغريب عاداتها كما لو كانت حياتي، الحياة التي أوتي لها أن تولد وتنمو وتشبّ، تُحِبّ وتُحَبّ، ترتكب المعاصي، وما أكثرها، وتؤدي الخيرات، وما أقلها وأهونها وأقصاها، حين تكون المعصية قاعدةً وسواها احتمال، إنها فاكهة الندم، ظلّه الأكثر ارتساماً والأوضح فتوّةً وتجسّداً، ليس سوى الندم من يعمّر مثل هذه الحياة ـ يتهدّج صوت الرجل وهو يهمس بذلك ـ يحرثها مرّةً بعد مرّةٍ، يبذرها ويسقيها، يترقّب بصبر وجَلَد أن تتفتق التربةُ وتطلَّ النبتة خفيفة الخضرة، تنهض على ساقها الطرية، وأن تفتح أوراقها مثل عيون حيية.
ـ لك أن تتذوق ثمارها. يقول لنفسه.
ـ هل تذوّقت، من قبل، ثمار الندم؟
إنه الآن في غرفة نومه المطلّة من طابقها الأعلى على الفسحة المعشبة الواسعة أمام المنزل، حيث يحلو له، عادةً، أن يسحب ستارة النافذة ويراقب مشاهد الحياة الصباحيّة، فيكمّل أحدهما الآخر، يضيء معناه، يعاضده ويؤدّي إليه، معنى النوم الذي ما يزال طائراً برائحته الخفيفة في الغرفة، لم تجففه شمس النهار بعد، ومعنى الحياة الذي يتجسّد خارجها. لن تشغل رجل النافذة خيالاتُ النسوة المتفرّقة وهن يفزعن، مبكّرات، إلى شؤونهن، كما لن تشغله العربات البعيدة الخاطفة من دون صوت، كأنها تندفع خارج الزمن، تجرّ بعضها خيول فتيّة. إن لديه ما يشغله هذا النهار، مرأى الرجال بثياب العمل الزرقاء المزيّتة وأدواتهم المعدن القاتمة، يحفرون، أو يرمّمون، أو يدفنون، أو يربطون، أو يقطعون. إنهم يغذّون الصباح بتمام معانيه، يزيحون عنه معنى النوم الطائر ذي الرائحة ويدفعونه نحو الحياة بأجسادهم الحرّة العفيّة وأدواتهم وبأصواتهم المتقطّعة العالية.
في حياة أخرى سيكون الرجل صبيّاً، يمرّ في طريقه إلى المدرسة بالرجال المنشغلين، تناديه بدلاتهم الزرق، يناديه معدن آلاتهم، تناديه أصواتهم، يسمع ذلك كله ويسمع أحدهم يدندن فيتوقف، كان الرجل قد نزل حتى منتصف جسمه في حفرة واسعة، انحنى إلى أمام يفرّق أسلاكاً رفيعة ملوّنة طرفها البعيد مدفون في قاع الحفرة، يعزل كلَّ لون منها على جانب ويدندن. الرجل في غرفة النوم هو الصبي نفسه وقد اقترب أكثر، أحسَّ رجل الحفرة اقترابه فرفع رأسه ونظر نحوه، عينا الرجل المبتهجتان منحت الطفل سعادة نهار كامل، كما هيأت رجل النافذة لانتباهة سيعيد حكايتها مع نفسه طوال النهار.
ـ إنها حكاية كلِّ يوم.
ـ لكنها ليست الحكاية نفسها..
ـ الرجل والنافذة وعامل الحفرة والصبي، الصبي، نعم، لم يكن حاضراً في المرّة السابقة.
ـ إنهم ينتقلون مثل ظلال حرّة، كلَّ يوم لهم صورٌ جديدة، وفي كلِّ صورة لهم حال، تلك هي حكاية هذا الصباح وقد سميتها ثمار الندم.
مع ارتفاع الشمس تعود الظلال لأول أحوالها، تشفُّ فتغدو أشباحاً واهنةً، تتوزّع على ما يُبصر الرجلُ من مخلوقات. 
الشجرة البعيدة يمكن أن تكون ملمحاً من ملامح نفسه، أو تكون هي نفسه كما عرفها وآنس إليها. الطائر الذي يحلّق خاطفاً من أمام النافذة يحمل، بلا أدنى شك، ملمحاً آخر من ملامح نفسه، ها هو يعود وقد مرَّ سريعاً نحو الجهة الأخرى كأنما تذكّر شيئاً، هُيىءَ له أنه التفت نحوه برأسه المنمنم الصغير، فتح منقاره وأغلقه في لحظة، ترك زقزقةً في الفضاء الفسيح، هي كلمة، بلا ريب، أو بعض كلمة، حرف أو بعض حرف، نأمة طائر لن تقول أكثر مما يعرفه الرجل ويسمعه بوضوح في أوقات متباعدة، كما يعرفه الطائر ذو الرأس المنمنم، حديث الدهشة الذي لا يخلو من ندم توجزه، في العادة، كلمة تامة واحدة، أو بعض كلمة. 
كلُّ شيء يمرُّ، يقول الطائر، هذه الحياة ليست حياتي.
هل كتب الرجلُ الجملةَ، ذات يوم، على صفحة أخيرة من صفحات دفاتره المدرسيّة؟
لنا أن نسأل، الآن.
أو تراه اكتفى بأن رسم طائراً محلّقاً، فائق السرعة بهي الكمال؟
كان وقتها قد قرأ حكاية النورس جوناثان لفنكستون، عاش رحلته الطويلة لاكتشاف نفسه ومعرفة كلِّ شيء من حوله، الرحلة التي يتوّجها برق غامر غريب.
«لا تصدّق عينيك، يقول الطائر، فكلّ ما تراه العين محدّد، بل انظر بقلبك واكتشف بنفسك ما تعرفه، وسوف تهتدي إلى الحقيقة».
توقّف الوميض، آخر الحكاية، وتلاشى النورس جوناثان في الهواء.
سيخلّف غياب جوناثان في قلب النورس الصغير فليتشر قطرةً صافيةً من دفق الحكمة، يهتف معها وقد ابتدأت رحلته هو أيضاً:
«ليست هناك حدود، يا جوناثان»
الرجل والطفل والطائر، رجل الحفرة بثياب العمل، ما زال يفرّق الأسلاك الدقيقة الملوّنة، وشمس النهار العالية. تلك هي الحكاية يا جوناثان.
*روائي عراقي

لؤي حمزة عبّاس