ثلاثي تمييع الوطن في سرداب الاستقلال / الولي ولد سيدي هيبه

سبت, 2014-11-22 20:53

و جميع الموريتانيين على أعتاب الذكرى الرابعة و الخمسين لعيد الاستقلال الوطني الذي تعيش الدولة أجواءه على وقع طفرة إعلامية لم تعرفها من قبل جمعت ركائزه الثلاثة من ورقي و الكتروني و مرئي، يتقاسمُ المواطنين و في تجاذب شديد تنافسُ الفضائيات و المحطات الإذاعية على محاور ثلاثة شديدة التباعد في الطرح و التناول و المغزى هي المقاومة تاريخا و حقا في التمجيد و حراك "إيرا"  الدوافع و المآل و قراءة  تاريخ الاستقلال في فترة تأسيس الدولة على أيدي الرعيل الأول اعترافا و تأكيدا على منطلق قيام الدولة الحديثة. هي إذا موضوعات ثلاثة و اهتمامات شتى و معالجات غرضية متعددة تعدد الطيف المهتم و  متنوعة تنوع المواقف في مفاهيمها و مراميها و منهجية السعي إليها.

بعيدا عن المعالجات الاقتصادية الملحة و الاجتماعية الحيوية  و الثقافية المطلوبة في دائرة الحداثة و في عين إعصار العولمة الكاسح يسير الإعلام المتحرر من قيود الضبط القسريٍ في اتجاه مغاير لذلك بالغوص المرضي في الماضي العقيم دون تأطير منهجي و عملي أو إحاطة متأنية أو ربط عقلاني بالحاضر الواعي و القادر على استشراف معالم المستقبل البناء. و هو الأمر الذي انتبه له البعض  ممن لا يروقهم إلا صناعة  الحاضر بما يتيحه العلم و يوفره من وسائل و تفتح عليه العولمة الطافحة، فانصرفوا عن الإعلام المحلي إلى الأجنبي اتقاء الملل والركود حتى باتوا مبتورين من مجموع المتابعين و المقيمين و المثرين ربما أيضا لمنتجه في حيز عطائه المقيد و المحدود الأفقين الزمني و المكاني.

و أما البعض الآخر فشتته الإعلام بين هذه الاهتمامات إلى قطع متناثرة و بعيدة عن الواقع  الذي يتطلب جرأة  في التناول و قدرة على التوجيه إلى مراكز اهتمام تدفع البلد  إلى الالتحام بالواقع و التزود من عطائه الزاخر ول البلد و من تجاربه التي لا تتوقف عند حد  سبيلا إلى محاربة التخلف و ما يتسبب فيه من دق إسفين الخلافات المؤرقة لذوي الألباب في جسم البلد الذي ما زال مثخنا بجراحات بعض أوجه الماضي الطبقي و الإقطاعي رغم التحولات الإيجابية و الدقيقة التي حدثت في العمق على الرغم أيضا من إصرار البعض على تجاهل ذلك و التصعيد من منطلقه في الاتجاه  المعاكس من ناحية، و التفاؤل المفرط لدى البعض الآخر من ناحية أخرى فيما تحفز كل و تعلله في ذلك أجندة و مآرب أبعد ما تكون عن روح الوطنية و دوافع الإنسانية.

و لما أن الدولة كما أسلفنا تعد العدة للاحتفال بذكرى الوطن و تمجيده فإن تنافس القنوات التلفزيونية و الإذاعية و غيرهما من المواقع الالكترونية و الصحف الورقية على إبراز القدرات الإعلامية و المهارات الفنية و الأداء المهني في تناوله حدثا بارزا و إبرازه فرصة استثنائية لإعداد التقارير و تنظيم الندوات الحوارية و تسجيل المقابلات و الجلسات الحوارية الحصرية و الساخنة، فإن مواضيع ثلاثة أبت إلا أن تطغى على مجمل الاهتمامات و غالب الإنتاجية كخلفيات ثابتة و زوايا محورية متحركة و إضاءات ملونة لكل الاحتفالية بالذكرى الرابعة و الخمسين و هي :

-         المقاومة الوطنية مسلحة و ثقافية كما يحلو للمهتمين بها بحثا و تنظيرا و كتابة و تسجيلا و بثا و إعلانا تقسيمها و تسميتها؛

-         الجدلية القائمة حول العبودية من خلال التحرك الأخير لحركة إيرا و توقيف زعيمها المؤسس برام ولد الداه و ما تمخض عن ذلك من ردود فعل متناقضة؛

-         الدولة و الاستقلال من خلال القراءة في حقبة نشأة الدولة المركزية و حيثيات هذا الاستقلال تثمينا و تأصيلا استنادا و رجوعا إلى الأشرطة الوثائقية بالصوت و الصورة و من خلال الحوارات مع الأحياء من الرعيل الأول و تحليل شهاداتهم حول التأسيس في كل أبعاده.

و لما كانت المقاومة محورا يكاد يكون الخلفية الأكثر بروزا التي تم تعيينها للذكرى فإن قلة هم الذين انتدبوا أو اعتمَدُوا أنفسهم متحدثين بوصفهم ملمين و محيطين و متخصصين في تاريخها للخوض في كل أوجهها منذ انطلاق شرارتها الأولى إلى غاية انطفاء وهجها و في الحديث عن أساليبها و مسوغاتها و شخصياتها الروحية و أبطال معاركها و أصحاب مكاسبها و أدبائها و مدوني يومياتها و ملاحمها و إبداعاتها القيادية و التخطيطية حيث ثمة أمثلة واقعية على ذلك ذكرها المستعمر الفرنسي نفسه من خلال بعض كتبته الذين تحلوا بنزاهة فكرية مشهودة. و إذ هي هذه القلة التي استضيفت دون سواها بشكل متكرر و غير مثر عبر أثير الإذاعات و على شاشات القنوات التلفزيونية فإن رنة حديثها الذي لم يتغير قد سقط في شراك التكرار و طوقته المحدودية بكل سلبياتها و بات بذلك طرح أفرادها ناقصا و دون قدر الموضوع و عمقه بل و ظل متأرجحا بين النقيضين الشطط و المجاملة حتى كانوا يشكونهما تارة و يعتدوا تارة أخرى.

و من المعلوم بداهة أن المقاومة شأن كل الأمة و دافع إلى ترسخ سيادة الدولة و تمتين شوكتها مما يحتم أن يكون الطيف المهتم أكبر حجما و يشمل الجميع من مؤرخين و مدونين للأحداث و كتاب و أدباء حتى تتسع دائرة الإلمام و الاهتمام و تتشكل و تبرز معالم المرجعية التاريخية و تتضح و يصبح الجميع يشأنها على قدم و ساق يمجدها، يحافظ عليها و يعلمها و يغرسها بذرة فيرعاها لتثمر الوطنية و الاعتزاز بالبلد و الغيرة على وحدة أهله و سلامتهم.

و أما الاهتمام الثاني الذي ما زالت تداعياته الإعلامية تأخذ حيزها الكبير في دائرة التناول المسهب لوسائل الإعلام فقد أحدث زوبعة من ردود الأفعال المتباينة في الحدة و الموضوعية و المتنافرة في الطرح و التناول السياسي و الحقوقي المتناقض الأبعاد و المرامي في أجواء لا تكاد تخفي هياجا مكبوتا و طفحا للكيل في التناول على خلفية بقاء الجدلية و هي تراوح مكانها من الغموض و الارتجالية. و لما أن الأمر كان بهذا الحجم و بهذا التواني عن منابر الالتقاء و التقاطع و التنازلات و الوصول إلى تقديم الحلول و التفاهمات، فإن الأطراف أبانت في ذلك الحيز الضيق "أفق التناول" عن تغييبها للغة الحوار البناء من منطلق الثبات الأعمى على المواقف المتحجرة.   

إنه من الجميل حقا أن يكون الإعلام بكل وسائطه وعاء حرا و مفتوحا على كل القضايا يحتضنها و يعانق أهل الرأي فيها و لكن أجمل من ذلك أن يكون هذا الإعلام ملما بالإشكالات في العمق و مالك لوسائل التمرير المشاركة في ترجيح الحلول و التبصير بعمق القضايا و ضرورة إشراك الجميع في التناول و سبر غور التفاهمات الضرورية و الممكنة.

إن الرجوع إلى عِبر الاستقلال، و ما تمخض عن حصوله من إحساس بالوطن لم يكن يوما قائما في حيز من التراب معلوم الحدود و الحرمة و السيادة، أمر بالغ و له أهميته القصوى في دعم هذا الاستقلال و تقوية دعائمه لتقوى شوكة الوطن و يتعزز حبه لدى أهله إن كان في "عبره" من دروس ناصعة في المواطنة المدنية و عدالة و مساواة بين أبنائه في نبذ عملي للفوارق الاجتماعية التي جاءت من رحم اللادولة و عجزت عن محاربتها كل التيارات الفكرية التي وصلت إلى البلد و

و لما يكن في هذه الخلفية الثالثة للذكرى الرابعة و العشرين لعيد الاستقلال ما قد صادف أو لامس بالقوة المطلوبة توقعات بعض التواقين إلى التحام البلد بالعصر و روحه، فإن التناول لحقبة الإستقلال ركز أكثر ما فعل على الشكليات من خلال عرض المتوفر من الصور و الأفلام الوثائقية دون الخطابات التي توطنت متن الحدث و تركت قيم بناء الدولة الحديثة و أسست لنهج المساواة و العدالة و الأخذ بالعلم و تبنى الديمقراطية.   

صحيح أن البحث في هذه المواضيع الثلاثة لذكرى تمثل أبرز مناسبات البلد يندرج ضمن تحسن المهنية في الأداء و الحس الصحفي في الإدراك المميز للاحتفال بالمناسبة. و لكن صحيح أيضا أن القيود التي ما زالت تحاصر المهنة و منها ضعف العقليات عن استيعاب العصر و متطلباته و بعدها عن التنازل عن التحجر لفائدة الانفتاح و الانخراط في منظومة ألوية العلم و الإبداع تحت مظلة الديمقراطية و دولة القانون.

و لكن لا سبيل مطلقا إلى هذه الدولة ما لم يقر الجميع، ممن تقع على عواتقهم و في عقولهم مسؤولية العمل على بنائها، بضرورة تجاوز القشور في كل مُتناول من مواضيع الاهتمامات الأولى و إلى السباحة في عكس تيارها للوصول إلى لبها في كسر شجاع للعقبات الكابحة و جرأة على تجاوزها.