نار بوعزيزي الباردة…أضاء ولم يحترق

خميس, 2014-12-18 16:15

ربما، لم يسمع محمد بوعزيزي عن الناشط الياباني تكاوي هيموري، الذي توفي بعد أن أضرم النار في جسده يوم الثامن من مارس/آذار سنة 2001 في الحديقة العامة للعاصمة اليابانية احتجاجاً على الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. وربما لم يكن يمتلك من الوقت أو المال ما يكتفي لاقتناء ومطالعة رواية الحبيب السالمي «نساء البساتين» ليسمع أصوات اليائسين أمثاله في ممرات الرواية وهم يصرخون «تونس صارت مثل جهنم» حيث ترن هذه العبارة في مسامع توفيق، المهاجر العائد إلى بلاده في إجازة قصيرة. والأكيد أنه وإن كان لم يتدرب على تقاليد حرق الذات كطريقة للاحتجاج، إلا أنه كان يستشعر تآكل كرامته واضمحلال آدميته قبل أن يقرّر إحراق نفسه في سيدي بوزيد، يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2011، بعد أن تلقى صفعة الإهانة من الشرطية نادية حمدي على وجهه. فمن لم يذق الإهانة، بتعبير إميل سيوران «لا يعرف معنى الوصول إلى آخر مراحل الذات».
هكذا جاءت صورته وهو محاط بكتلة من اللهب كـ»بيان خام عن الواقع يخاطب العين» حسب تعبير فرجينيا وولف حول فاعلية الصور الخالية من الجدل، حيث توجّب على الناس، وليس على المتفرجين والمتذوقين، قراءة ما تقوله تلك الصورة الصادمة، وتوثيقها في الذاكرة، أو بمعنى أدق تحميلها عبء المأساة، فقد تحشّد بوعزيزي، كما يبدو من الصورة ليستظهر أكبر قدر من الألم الذي يذكّر بأوجاع القديسين، وبما يمكن أن تشكّله ذاته المشتعلة من طاقة إلهامية.
وبالفعل حققت فعلته وصورته ما استشعره في داخله، وتمت أيقنته كشمعة بشرية تحترق من أجل الآخرين، كما بدا ذلك جلياً في متوالية الصور المتولّدة من صورة احتراقه، الموحية بكائن نوراني استطاع تبديد الظلام بطاقة حرارية مضاعفة. على اعتبار أن النار الساطعة، بتعبير غاستون باشلار هي بمثابة «نار الوميض الكامنة في بناء تصور بطولي، وهي رمز النقاء والتغيير الجذري».
إن صورته كإنسان حقيقي يشتعل، في محرقة حميمة، وليس كصورة تمثيلية مركّبة أو زائفة، هي التي رفعت منسوب الثمن الأخلاقي لكل من حضر الواقعة أو شاهدها عبر الميديا. فللفرجة ثمن يتوجّب الإيفاء به، حيث أطل وجهه المحقون من وسط النار بانفعالات غامضة يصعب تفسيرها، تذكّر بسياق المعاناة والآلام، كما تتمثل في مشاهد الرؤوس المقطوعة، والأجساد المصلوبة، والجلود المسلوخة، والرقاب المشنوقة، المختزنة في الوجدان البشري، وفي تاريخ الرسم والتصوير. 
وفي تلك اللحظة بالتحديد استوعب الناس أن ما عاناه بوعزيزي، ومآله القرباني الضاج بالمعاني أمامهم. فمعانقة النار عند هذه الحافة ليست سوى صيغة من صيغ الرد الشخصي على المآسي الدنيوية التي ينبغي استنكارها ويمكن التغلّب عليها، وليست عقاباً ربانياً، أو هذا ما كانت تقوله الصورة بالتحديد، حيث تمثل روح بروميثيوس. واستدخل ذاته في نار متقدّة في داخله، لا تشبه تلك النار الاستعمالية التي تُستخدم للطبخ والتدفئة، بقدر ما هي طاقة رمزية خارج المعنى المتعارف عليه للنار.
ولا شك أنه بالغ في أداء طقس العنف والوحشية إزاء نفسه، ليتماهى مع منسوب احتراق ناسه في تونس، وليعبّر بمنتهى البلاغة الحسّية عن تلك الجهنم. وهو، على ما يبدو، تعبأ بطاقة هائلة لجرح الآخرين، وإيذاء مشاعرهم المستكينة، وتنبيه حواسهم المثقلة باللامبالاة، ووخز ضمائرهم النائمة في الخوف، المستنقعة في الإرجاء، وذلك عندما قرر أن يلبس المعطف الأحمر الأرجواني بجسارة اليائس.
هذا ما تفصح عنه صورته وهو يخرج من مبنى البلدية، أي عن وجه يختزن ما هو أبلغ من الألم، قبل أن يعطي ظهره للكاميرا، ليعلن طقس موته بدون مونتاج ولا تهذيب ولا شفقة على حواس الرائي، وبدون مراعاة لحرمة كشف وجه المتألم أو الميت، فهو بصدد فعل ثوري، وليس مجرد ممثل يؤدي دوره الاستعراضي، وكأنه بتلك اللقطة الصاعقة، الخالية من التملّق، يجسّد معنى الرعب الذي تكمن فيه – حسب ليوناردو دافنشي- جرعات من الجمال المفعم بالتحدي.
إن صورة احتراقه هي بمثابة الدليل على ما يمكن أن تصل إليه الأحوال، والممكن تعبيرياً للرد الفنائي عليها. بمعنى إمكانية تحطيم سطوة الواقع بواقعية أكثر فجائعية. وعليه، جاءت الصورة بمثابة وصمة تنحفر في ضمير الجميع، لا ترحم أحداً سواء من المتفرجين أو القابضين على زمام السلطة، حيث أجاد بوعزيزي فن إرعاب الآخرين، وبث الفزع في نفوسهم المستكينة، من خلال التمسرُّح الجارح، والموت الخلاق قبالة عدسات المصورين الذين باتوا يعادلون عيون التاريخ.
وهكذا جاءت الدراما البصرية التي قدمها لموته كبيان إدانة للفظاعة المرتكبة بحق الإنسان. وقد كان على يقين بأن فعلته الجريئة بقدر ما ستجعله أمثولة حية، ستولد متوالية من البوزيديين، فيما يشبه انبعاث طائر الفينيق. لتظل ذاته متأججة وملهمة مثل نار القديس يوحنا، التي تبدد قوى الشر بطاقتها الحرارية، التي تخفي في مكامنها، إلى جانب الإضاءة أحاسيس الانتقام والثأر للذات القربانية.
الصورة خطاب، وهنا يكمن سر مرجعية تلك الصورة المعبأة بالعاطفة، التي حشدّت الفعل الجماهيري أكثر مما حاولته كل الخطابات السياسية والشعارات الاجتماعية، فجسده المحترق هو الذي ولّد موجة من السخط على المتسببين في عذابه، وأعاد التساؤل الثوري حول معنى المآل الفجائعي لجسده المنهك، الماثل كمشروع موت بمقدوره استنهاض كل المحترقين بالخوف والصمت والصبر، كأنه بذلك القبس من النار، قد عاد إلى طوره البدائي ليمسح الخط الفاصل ما بين الواقع بالمجاز، وربما أجاب عما لم تستوعبه سوزان سونتاغ في كتابها «الإلتفات إلى ألم الآخرين»، إذ لا يعني تحديد موقع جحيم ما، بالنسبة لها «إخبارنا كيف يمكن إخراج الناس من ذلك الجحيم، كيف يمكن أن نلطّف ألسنة اللهب في ذلك الجحيم»، لكن بوعزيزي فعلها بموقف غريزي يحترم فيزيائية النار كقوة مركزية للتمدُّد والانبساط، وينم عن نضج نفسي وأخلاقي، ليوقظ النمرود من غفلته وغطرسته، بنار لا شك أنها كانت برداً وسلاماً، فقد أضاء ولم يحترق.
*كاتب سعودي

محمد العباس*