شهادات في حُق الرئيس الراحل المصطفى ولد محمد السالك

جمعة, 2014-12-19 18:14

الرئيس الأسبق محمد محمود ولد أحمد لولي: "المصطفى ولد محمد السالك لم يرغب في الاستمرار في السلطة"

في البداية علينا أن نترحم على أخينا المصطفى ولد محمد السالك الذي عرفت فيه رجلا مؤمنا، ورعا، وطنيا، وخلوقا.

حين قرر ضباط الجيش الوطني القيام بانقلاب 10 يوليو 1978، فضلت النأي بنفسي عن ذلك، خوفا مما قد يحدث من أمور يمكن أن أسأل عنها بين يدي الله تعالى؛ لكنهم اختاروني ضمن أعضاء اللجنة العسكرية ولم أقف ضد ذلك التوجه الذي كانت تمليه ضرورة وقف سفك دماء الموريتانيين؛ وخاصة الجنود الذين كنا مسؤولين عنهم كضباط سامين.

وقد نجح ما أراده الإخوة الضباط على أحسن وجه، حيث لم يتسبب الانقلاب في سقوط أية قطرة دم، والحمد لله؛ وتبين أن ما قاموا به كان مفيدا ولم يكن يمكن القيام بأفضل مما فعلوا حينها؛ والفضل في ذلك يعود، في المقام الأول، للمرحوم المصطفى ولد محمد السالك الذي أدار الأمور بحكمة وشجاعة وروية.

الحقيقة أن انقلاب 10 يوليو كان خيارا لا مناص منه لإنهاء الوضع الكارثي السائد، حينها، في موريتانيا. فالبلاد كانت تواجه حربا طاحنة أنهكت اقتصادها الهش وشلت مسيرتها التنموية الوليدة، وهددت وجودها ككيان.

لقد قاد المصطفى ذلك التغيير بطريقة مسؤولة لم تقص أحدا. وتم اختياره من طرف رفاقه ضباط القوات المسلحة الوطنية، ولم يكن يسعى للسلطة، لكن نداء الواجب الوطني دعاه فلبى بأحسن ما تكون التلبية. وكان حريصا على التخلص من كرسي الرئاسة في أقرب فرصة.

لكن كما هو معروف، الصراعات والخلافات غالبا ما تحول بين المرء وما يريد؛ خاصة عندما يكون بصدد تحقيق أهداف وطنية نبيلة كبرى. وهكذا اختار المصطفى أن يتنحى، حرصا منه؛ في اعتقادي؛ على البقاء مرتاح الضمير.

ولعل واجب الحقيقة يجعلني أؤكد، اليوم، أن هذا الفقيد الفذ، الذي نستذكره اليوم، ظل ـ على مدى سنوات طوال ـ يعاملني شخصيا، من زاوية تقدير تمتاز عن تلك التي كان يعامل بها بقية زملائي من الضباط..

لقد كان رجلا تقيا، وضابطا نزيها، ورئيسا جديرا بكل الاحترام.. تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

اعزيزي ولد المامي، رجل أعمال ومؤرخ: "هكذا عرفت  المرحوم المصطفى ولد محمد السالك"

 

لقد شهدت جميع الأحداث التي عرفتها موريتانيا، والحمد لله، منذ بواكير الاستقلال إلى اليوم؛ حيث تأسست مدينة نواكشوط، ونمت وتطورت أمام عيني.

ولا بد، في البداية، أن أنوه إلى أن الرئيس المرحوم المختار ولد داداه أسس هذه الدولة، وخاصة العاصمة نواكشوط، من لا شيء.. كان هو وحكومته وكل معاونيه يجتمعون تحت خيام الصوف السوداء، ويجلسون تحت ظل الأشجار ليشيدوا أسس دولة عصرية لم يكن لها وجود. لذا أرى من الواجب الاعتراف له بذلك، وكل الموريتانيين مدينون لهذا الرجل بوجودهم ضمن دولة وطنية قائمة على خريطة دول العالم.

أما بخصوص ذكرياتي مع الرئيس الراحل، المرحوم المصطفى ولد محمد السالك، فكان صديقا صادقا، نزيها، مستقيما، ورعا، تقيا، حكيما، شجاعا.. في الحقيقة عندما أتحدث عن كل ما أعرفه فيه من خصال حميدة ومن سمو أخلاق وروح وطنية عالية، فسيحتاج ذلك إلى تأليف كتاب كامل. ومن أبرز ما يميزه؛ إلى جانب ما ذكرته من خصال، كونه كان كتوما، لا يتكلم إلا ليقول الصدق وكان يزن كلماته وعباراته بدقة؛ بحيث يمكن القول ـ دون مبالغة ـ إنه كان يجسد مضمون الحديث النبوي الشريف: "من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"..

لقد عرفته عند تخرج أول دفعة من ضباط الجيش الوطني غداة الاستقلال، إلى جانب المرحوم الشيخ ولد بيده، والرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، وآخرين. وقد أصبحت، أنا والمصطفى صديقين بالمعنى الحميمي للكلمة إلى أن توفاه الله قبل سنتين؛ وأسأل الله تعالى له الرحمة والغفران وجنة الرضوان.

تعرفت على المرحوم المصطفى ولد محمد السالك، حين دعاني صديقي المرحوم اسويدات ولد وداد لتناول العشاء عنده، وقد دعا ـ أيضا ـ صديقه المصطفى، فالتقينا عند اسويدات وتعارفنا بشكل فعلي، وبدأت صداقتنا تتعزز وتوطد إلى أن بلغت مستوى الحميمية وزال التحفظ تماما.. كانت صداقة بلا تحفظ.. كما كانت لي علاقة صداقة مع معاوية وعدد آخر من كبار الضباط.

كنا نعيش في نفس الحي وكنا نلتقي بشكل دائم تقريبا. وقد ظهرت شجاعته وحكمته لكل الموريتانيين خلال حرب الصحراء باعتباره ضابطا ساميا في الجيش، ثم باعتباره قائدا للقوات المسلحة؛ وسأوضح ذلك، في إطار الحديث عن انقلاب 10 يوليو 1978.

قلت إن المرحوم المصطفى ولد محمد السالك كان كتوما.. وقد تجلى ذلك في كونه نجح في إخفاء أي نية لديه في القيام بانقلاب عسكري في البلاد، وأمضى فترة ستة أشهر في التحضير لهذا الأمر الذي لم يكن يعلم به معه إلا شخص واحد، هو الرائد الراحل المرحوم جدو ولد السالك. وقد تم تنفيذ انقلاب 10 يوليو، بنجاح، بعد أن قاد المرحوم جدو وحدات من الجيش كانت تحت إمرته في شمال البلاد نحو الجنوب؛ تحت ذريعة القيام بمناورات تدريبية إلى أن اقتربت من نواكشوط، لأن الهدف الحقيقي، غير المعلن ـ طبعا ـ من تحركها كان تنفيذ الانقلاب.

غير أن ما لا يعرف كثيرون هو أن فكرة الانقلاب تولدت، مبكرا لدى المصطفى.. ففي سنة 1963، كان المصطفى قائدا لفرقة الجيش في مدينة النعمة، وكان عبد الله ولد اباه؛ وهو صديق لي أيضا، طبيبا في نفس المدينة. والرجلان لم يكونا على علاقة جيدة بالسلطة السياسية المركزية بنواكشوط وكانا صديقين يلتقيان دائما. وقد سمعت عبد الله ولد اباه، ذات مرة، يقول إن ولد محمد السالك يفكر في القيام بانقلاب.. وبالمناسبة أقول إن عبد الله ولد اباه كان يتحلى بدرجة نادرة من الذكاء والفطنة.. وسألته، يوما، ما الذي يجعلك تعتبر أن المصطفى يفكر في القيام بانقلاب؟ فرد بقوله: "قلت ذلك ولا أزيد"!

ثم قاد المصطفى انقلاب 10 يوليو 1978 بنجاح تام ودون أية قطرة دم؛ ونجح في إخراج موريتانيا من الحرب التي قضت على الكثير من خيرة ضباطها وجنودها، ودمرت اقتصادها الناشيء؛ حيث لم تكن موازين القوة في صالحها، لأن الطرف الآخر كان أحسن تجهيزا وأكثر عتادا، وكان يحظى بدعم واسع من دول أقوى بكثير من بلادنا.. لقد ضحى المصطفى تضحية جسيمة من أجل إنقاذ موريتانيا.. وإذا كان هناك آخرون ضحوا أيضا، فإن تضحيات الرجل تظل أعظم بالنظر إلى الهدف السامي الذي ضحى من أجله، ونظرا للعبء الثقيل الذي تحمله في سبيل وطنه وشعبه.

أشرت إلى أن صديقي عبد الله ولد اباه فطن، منذ سنة 1963، إلى أن فكرة الانقلاب تراود المصطفى ولد محمد السالك.. لكنه ـ أيضا ـ حذر الحكومة، والرئيس المختار ولد داداه من تعيين المصطفى قائدا لأركان الجيش سنة 1978. يومها كان عبد الله يعمل في نواذيبو، ولما علم بأن المختار ينوي استبدال امبارك ولد بونا مختار بضابط آخر على رأس قيادة الأركان، جاء إلى نواكشوط والتقى بوزير الدفاع آنذاك محمذن ولد باباه، أطال الله في عمره؛ وقال له: "إذا كنتم تريدون تعيين قائد جديد للجيش، فاحذروا من تعيين المصطفى في هذا المنصب".

سأله ولد باباه: "ولماذا؟"، فأجابه: "أنا فقط أحذركم من هذا الرجل ولكم أن تعملوا بمقتضى هذا التحذير أو تفعلوا ما تشاؤون".

وبعد أن تم تعيين المصطفى قائدا للأركان، عاد عبد الله ولد اباه وطلب من ولد باباه أن يمكنه من لقاء الرئيس المختار على عجل.. وتم اللقاء بين الثلاثة، حيث أبلغ محمذن ولد باباه الرئيس بما قاله عبد الله له.. فرد المختار، مبتسما: "إنها مخاوف ابن مخلص.. ونحن نتفهم أوهام الأبناء..".

حينها قال عبد الله للمختار: "إذن أنتم لا تأخذون برأيي.. على كل حال ستبدي لكم الأيام صدق تحذيري قريبا جدا"..

والغريب أن هذا اللقاء تم يوم السبت 8 يوليو 1978 وفي صبيحة يوم الاثنين الموالي، 10 يوليو وقع الانقلاب!

مرت سنوات وخرج المصطفى من السلطة، واعتقل سنة 1984 في عهد الرئيس محمد خونا ولد هيداله، ليفرج عنه غداة وصول معاوية ولد الطائع للحكم في ديسمبر من نفس السنة.

توجه، رأسا، إلى موطنه في كيفه، حيث ذهبت لزيارته والاطمئنان عليه؛ وهناك فوجئت بكونه تعرض لهزال شديد، حيث بدا وقد فقد 30 إلى 40% من جسمه.

أمضيت معه 48 ساعة، وكان بيته ملاصقا لمسجد ومحظرة، وكنت أستيقظ فجرا عند الأذان فأجده وقد سبق الجميع إلى المسجد، يصلي بعض النوافل ويتلوا سورا من القرآن العظيم ثم نصلي الصبح مع الجماعة.

وفي طريق عودتي إلى نواكشوط، توقفت في أبي تيليميت حيث نزلت عند صديقي عبد الله ولد اباه وأمضيت ليلتين في ضيافته، وحدثته عن المصطفى وظروفه الراهنة؛ ثم سألته: "قل لي ما الذي جعلك تتنبأ بأن المصطفى يفكر في انقلاب ضد المختار ولد داده منذ سنة 1963، ثم تحرص على تحذير المختار من تعيينه بقائدا للأركان سنة 1978؟ خاصة وأن مخاوفك كانت في محلها كما تبين لاحقا".

أجابني: "الآن وقد حدث ما حدث، وأصبح كل ذك من الماضي، أجيبك.. عندما كنا في النعمة سنة 1963 وكنا غير متفقين تماما مع سياسة المختار آنذاك، لاحظت أن المصطفى كثير المطالعة، ولفت انتباهي أن غالبية الكتب التي يطالعها بتمعن وتركيز، كلها تتحدث عن قادة وصلوا إلى السلطة عن طريق انقلابات عسكرية في بلدانهم، وتروي تفاصيل تلك الانقلابات.. فأدركت أن لدى صاحبي ميلا للانقلابات.. هذا كل ما في الأمر".

لقد أشرت في بداية حديثي إلى نزاهة المصطفى واستقامته وتعففه عن المال العام؛ ولعل القصة التي أوردها هنا، بهذا الخصوص، تعكس جانبا من تلك النزاهة والاستقامة؛ وتؤكد زهد الرجل في الدنيا، وخاصة، ابتعاده عن المال العام.

تعلمون أن غالبية الضباط السامين في بلادنا، وخاصة منهم من تولوا مسؤوليات قيادية في المؤسسة العسكرية، أو وظائف عمومية أخرى؛ يعدونضمن أثرياء البلد، حيث يتركز اهتمامهم، عادة، على جمع الثروة، إما من خلال قطعان الماشية، وإما من خلال الأملاك العقارية.. وبطبيعة الحال توجد استثناءات قليلة.

بالنسبة للمرحوم المصطفى فهو لم يكن يملك غير منزل واحد عادي جدا في نواكشوط حصل عليه بفضل قرض مصرفي يعود إلى السبعينات، عندما قررت الحكومة في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه منح قروض لأعضاء الحكومة وكبار الضباط بهدف تمكينهم من الحصول على مساكن. وأنشأت بنكا لهذا الغرض.

عندما تم اعتقال المصطفى، سنة 1984، عمدت بعض الأوساط المقربة منالنظام آنذاك إلى الضغط من أجل مصادرة ممتلكات المصطفى، فبدأت إجراءات مصادرة تلك الممتلكات التي كانت تنحصر، في الواقع، في منزله.

وفي تلك الأثناء التقيت بالسيدة اليخير، زوجة المصطفى، لتفقد أحوال الأسرة فأبلغتني بأن السلطات تريد أخذ منزلهم الذي لا مأوى لهم سواه. فتوجهت، فورا، إلى اندياغا ديينغ؛ الذي كان يومها قائدا مساعدا لأركان الدرك، حيث أبلغته بأن أطفال الرئيس المصطفى ولد محمد السالك وأمهم مهددون بالطرد إلى الشارع؛ ولم أخف عنه امتعاضي من هذا الإجراء ومعارضتي القوية له.رد علي بقوله: "نحن العسكريون لا يمكن أن نقبل بأن يتعرض أي من رفاقنا، أحرى قادتنا، لأي موقف مهين.. أطمئنك بأن أطفال المصطفى ووالدتهم لن يطردوا من بيتهم، مهما حدث". وما زلت أقدر ذلك الموقف النبيل وأدين به للعقيد اندياغا ديينغ.

والأمثلة على نزاهة واستقامة المصطفى ولد محمد السالك لا حصر لها، ويمكن، كما أسلفت، أن تكون موضوع كتاب كامل. رحمه الله وحفظ أبناءهوسدد خطاهم ليكونوا، بحق، خير خلف لخير سلف.

 

 

 

 

أحمد ولد سيدي ولد حننا وزير ودبلوماسي سابق

أول مرة رأيت فيها المصطفى ولد محمد السالك كانت سنة 1962 خلال اجتماع رسمي اذكر أنهكان في المساء. وكانت له آنذاك سمعة، لا أقول إنها ملأت الآفاق، لكنها كانت تميزه وهي تعود لكونه أول ضابط سامي في تلك الفترة.

وكان إلى جانب سمو رتبته العسكرية يعتبر من قبل السياسيين، وخاصة الرئيس المختار ولد داداه، من الشخصيات التي ينبغي تقريبها في تلك الظرفية المتميزة غداة استقلال موريتانيا، وفي ظل ما تواجهه البلاد من تحديات جسيمة تتعلق حتى بوجودها.

ومنذ أن رأيته عرفته دون أن يعرفني، وانقطعت الصلة بيننا فترة من الزمن، حيث ذهبت أنا إلى الخارج من سنة 1962 إلى 1967؛ ولما عدت التقيت به، حيث جاء الوالد سيدي ولد هنون، الذي يطلق عليه الناس اسم سيدي ولد حننا، فاسم أسرتنا هو أهل هنون.. أما حننا فقد اشتهر في فترة الاستعمار حيث تولي الزعامة بعد أخيه سيدي، الذي توفي سنة 1913م.

لما جاء سيدي ولد هنون إلى نواكشوط التقى بالمصطفى في منزل المرحوم اب ولد أنه، وقد وجدت معلومات عن لقائهما مفادها أنه كان لقاء حميميا إذ أن المصطفى رجل من المجموعة تعلم في المدرسة العسكرية التي لم يكن المتعلمون فيها كثيرين في تلك الفترة. وكان من المثقفين يومها، وربما في الفترة الحالية؛ حيث أن المعلم آنذاك أفضل ثقافة من حامل المتريز اليوم.

لم أمكث طويلا بعد عودتي حتى تم انتخابي عضوا في المكتب السياسي الوطني لحزب الشعب الموريتاني الذي كان يشكل القيادة العليا في البلد.

وقد التقيت به في منزل كان مؤجرا له من طرف الدولة، وشربنا الشاي معا، وتعرفت على السيدة اليخير؛ زوجته؛ أثناء ذلك وتعرفت منها على أسرتها وعلى عروبتها، ثم افترقنا بعد تناول الشاي معا. لكن الصلة بيننا لم تنقطع بعد ذلك.

يذكر الناس الكثير من الخصال الحميدة التي كانت تميز المصطفى من صدق ونزاهة واستقامة، وانضباط غير محدود سواء على المستوى الديني أو الأخلاقي، ودماثة خلق، وإيمان بالوطن.. إذا تحدثت عن خصاله فقد أكون غير موضوعي..

المرة الأولى التي رأيته فيها كانت عند محاكمة مجموعة من الضباط المتهمين بعملية "اعمارة النعمه" حيث كنت ضمن مجموعة من الشباب المتحمسين وهناك رأيته عن بعد دون أن أكلمه أو يكلمني.

أما اللقاء الأول معه، والذي الذي ما يزال عالقا بذهني، فهو الذي تم بعد تعييني عضوا في المكتب السياسي حيث كان منزله المؤجر غير بعيد من دار الحزب؛ مقر الجمعية الوطنية حاليا؛ حيث دعاني وجئت إليه ثم التقينا في منزله في تفرغ زينه، أوعلى الأصح المنطقة الموجودة جنوب تفرغ زينه الحالية، حيث كان عائدا من فرنسا وعين قائدا لأركان الجيش..

حسب فهمي الشخصي، كان المصطفى يحظى باعتبار جيد لدى الرئيس المختار ولد داداه.. واستمرت علاقتنا حيث تم تعيينه في عدة وظائف، وأذكر أننا التقينا أثناء توليه إدارة شركة سونمكس، والتقينا بشكل خاص حين كان واليا في النعمه، واحتكيت به كثيرا حيث كنت عضوا في المجلس الاقتصادي الجهوي في ولاية الحوض الشرقي، (الولاية الأولى آنذاك).. التقينا خلال الاجتماعات الرسمية والتقينا في العراء والتقينا في المناسبات الخاصة التي تجمع الأقران عادة.

أذكر أنني عندما كنت متوجها إلى الخارج، التقيت به لأن الوالد حملني رسالة شفهية إليه، ولما أبلغته بها طلب مني إحضار الشخص المعني بالأمر فقدمته له وأنجز له المهمة التي أرسل بها إليه الوالد على الوجه الأكمل.. لا يمكنني حصر لقاءاتي مع المصطفى ولا المواقف التي جمعتنا أو أعرفها عنه..

استمرت الأمور إلى أن اندلعت حرب الصحراء، ولم أكن في موريتانيا عند ما بدأت الحرب سنة 1976 وكان أول مقال ينتقد موريتانيا على موقفها من موضوع الصحراء قد نشر سنة 1976 في صحيفة المجاهد الجزائرية بعنوان: "المختار ولعبة الطوبين"؛ حيث كنت مكلفا بالملف العسكري والمدني في السفارة الموريتانية بالجزائر العاصمة وكنت الوحيد هناك.. وقد مررت بما يمر به أي شخص في الغربة بكل أبعادها؛ الغربة السياسية والغربة الدبلوماسية والغربة الشخصية.. وعانيت من كل ما يترتب عن تلك الغربة من أمور لكم أن تتخيلوها.

ولما عدت استقبلني الرئيس المختار ولد داداه والتقيت بالمصطفى أيضا.

بعد ذلك اتصل بي المرحوم حمدي ولد مكناس، وزير الخارجية حينها، وأبلغني بأن الرئيس المختار يريد مني أن أخبره بالموقع الذي أرغب في أن أكون فيه، وعرض علي منصب سفير في إيران؛فقلت له إنني أفضل الذهاب إلى تونس لكي أجري فيها دراسات عليا، وفعلا سافرت إلى تونس.

واشتد وطيس الحرب وتفاقمت الخسائر المترتبة عنها على كافة المستويات: سياسيا، واقتصاديا،وعسكريا... حيث أقنع الرئيس المختار أو شخصيات نافذة في مركز القرار بأنه يريد ممارسة عمله المهني.. يومها كان مدير غرفة العمليات بقيادة أركان الجيش هو معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، حيث كان المصطفى يقدم لي انطباعاته عن الضباط العاملين معه ومن بينهم معاوية، ثم وقع انقلاب 10 يوليو فبرز كزعيم للانقلاب وكنت في السفارة الموريتانية في تونس؛ وكان السفير ـى يومها ـمعروف ولد الشيخ عبد الله..

وبما أنني كنت أواظب على الحضور عند وقت بداية الدوام الرسمي بشكل دقيق وأحضر للمكتب قبل الجميع، فقد رددت على اتصال هاتفي من وزارة الخارجية التونسية تسألنا فيه عن حقيقة الانقلاب الذي وقع في انواكشوط، فقلت لمن كان يتحدث إلى إنني لم أعلم بذلك، فأخبرني بأنهم تلقوا برقية عاجلة لم تكتمل بعد تفيد بأن قادة الجيش أطاحوا بالرئيس المختار ولد داداه. ثم جاء السفير فكان الخبر مفاجأة كبرى بالنسبة له، بينما لم يفاجئني الانقلاب على الإطلاق لأن الوضع تدهور إلى حد كبير، وكان لدي ملف الضباط الذين قتلوا في الحرب، والضباط الذين تم أسرهم.. ومعلوماتي الشخصية وتلك التي استقيتها من السياسيين تجعلني لا أستغرب وقوع الانقلاب.. كما أن الناس باتوا يتوقعون انقلابا عسكريا من يوم لآخر.. 

عدت إلى موريتانيا والتقيت به أثناء غليان الثورة الإيرانية سنة 1979 أي بعد الانقلاب بأقل من سنة واحدة وتحدثنا بشأنها وخاصة حول الأوضاع الراهنة آنذاك في موريتانيا.

كان منشغلا بإقامة نوع من الديمقراطية التشاورية في البلد، وأسس مجلسا تشاوريا وطنيا موسعا ضم كل المكونات الوطنية، لكن بعض الضباط كانوا متعجلين بفعل تجربتهم المتعجلة، في مجال تحليل الأمور، والتأني المطلوب إنجاز المشاريع الوطنية الكبرى.

وقد ألقى خطابا أمام المجلس الاستشاري الجديد أوضح فيه أن الجيش لا يريد البقاء في السلطة وإنما جاء لتحقيق السلام، وتقويم الاقتصاد الوطني، وإرساء مؤسسات ديمقراطية.

وبدأ المرجفون يخربون بيوتهم بأيدهم وقضوا على ذلك المشروع.

وقد التقيته في تلك الأثناء. ومنذ ذلك اللقاء تولدت لدي تجربة في مخاطبة الرؤساء، وهي أنني لا أقدم لأحد منهم تحليلا ولا توجيها، وإنما أكلمه في مسألة شخصية ولا أبدي له أي تعجل.. وبذلك أكتشف إن كان متسرعا أم لا..

ومن النادر أن نجد رئيسا متأنيا يجيد الاستماع والإنصات؛ وتعلمت من تجربتي أن الرؤساء غير المتعجلين نادرون جدا.. بالنسبة فمن بين من التقيتهم من رؤساء موريتانيا؛ يمكنني القول بأن المرحوم المختار ولد داداه لم يكن متسرعا أبدا.. كما استخلصت من لقاءاتي بقادة الدول الأخرى، أن الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، هو الآخر يتصف بالتأني والروية.