المسرح عِلمٌ بلا قواعد! / عادل رشيد

أربعاء, 2014-07-02 12:10

يركنُ العقل البشري لحقيقة ما عندما تأخذ شكل البديهية أو المسلمة المنجزة التي لا تقبل البرهان، وبالتالي لا حاجة لأن تخضع لأي شكل من أشكال النقاش أو الجدل .. فهي الحقيقة وحسب.
حتى العلوم الوضعيّة التي أسهم العقل البشري في انجاز مقوّماتها الأولى والتي تخضع في تطوراتها اللاحقة لفرضيات تخضع لعمليات إثبات وبرهان، بنيت أساساً على قواعد ومنطلقات اتُفق على حقيقتها واقعياً, واستمرت عمليات البحث والتطوير في امتداداتها ومساحاتها انطلاقا ًمن نقاط مثبته ثابتة,مبرهن على صحتها أصلا، مقنعة بما لا يقبل الشك فأين المسرح كعلم من هذا اليقين؟! .
ربما كان ثقل العامل الذاتي وتفرده وخصوصيته وحضوره الطاغي على العوامل الموضوعية في كل العلوم الفنيّة وخصوصاً المسرح بصفته الفن الحاضن والجامع لمختلف أشكالها وألوانها، كان السبب الأبرز لبقاء هذا العلم المفترض دائراً هائماً في فضاء شاسع رحب غير قابل للثبات بحكم طبيعته الأولى، ولعل هذه الحالة الكائنة منذ ولادته هي الحقيقة الوحيدة التي ارتضاها لنفسه.
من هنا تأتي الجرأة للقول على هذا الصعيد تحديداً: إن أحد منّا لا يمتلك الحقيقة.

«مأساة إبليس» وذهنية التجريب
رغم نفيه بعد تمرده ورفضه للقواعد الثابتة والقوالب الجامدة، يبقى إبليس موضوعياً الحامل الموازي الأكبر للنظرية اللاهوتية برمتها، التي تسقط بسقوطه وتنتفي بعدم وجوده و ربما تزول بزواله.. من هذه المقاربة لأولى الأفكار العقلية الأصيلة التي آمنت بها البشرية ندرك ,أن كل محاولة للخروج عن القواعد أو كسر للثوابت أو القوالب تحمل في متنها ثنائية /التطوير والتكفير/ ..ولعل إبليس المسرح الذي ولد بولادته والذي كفّر بقدر ما طوّر، كان ولمّا يزل ذهنية التجريب. إن الإشارة لولادة ذهنية التجريب مع ولادة المسرح بحد ذاته، اعتقادا منابأن كل عمل مسرحي هو عمل تجريبي بالضرورة بغض النظر عن نجاحه أو فشله، ذلك لأن ذهنية التجريب بالمبدأ آلية عقلية تلقائية أصيلة في العقل البشري تملّ الثبات أوالتكرار وتسعى دائما لرؤية الجديد المختلف النظر.

الأصولية المسرحية حافز التمرّد
لن يكون المسرح بمنأى عن الآلية الحياتية الحتمية للعلاقة بين فعل الدفاع و فعل الهجوم، فكلما تمترس الدفاع وتصلب حيال الفكرة ازاد نهمُ النقض و حدّة الهجوم رغبة بالتقدم والوصول والعكس صحيح . بهذا المعنى قدّمت الأصولية المسرحية إذا جاز لنا التعبير خدمة كبيرة لصالح تطور المسرح وارتقائه الفكري والعملي وشكلت بتعنتها حيال قوننة الفعل المسرحي وتأطيره على مستوى الشكل الفني والمضمون الفكري، حافزاً قويا للتمرد على قوالبها الصلبة ومحاولات حثيثةلكسرها والخروج منها بأطر وآفاق جديدة.
ربما غفلت الأصولية المسرحية عن حقيقة القواعد الأساسية التي بني عليها الفعل المسرحي أصلاً، بصفتها مجموعة من القواعد والأسس المتغيرة غير الثابتة، ذلك لأنها تعتمد بجوهرها على الإنسان بكل ما يحمل من تناقضات ومتغيرات فكرية نظرية وسلوكية عملية، ليبقى للأسس الثابتة هامش بسيط لا يشكل في مجمله الصفة الأبرز لهذا الفعل. من هذه المساحة انطلقت حالة التمرد المسرحي و خرج مفهوم التجريب بصفته ثورة على المسرح التقليدي (الأصولي).

الغريزة البحثيّة كمبدأً
يتقدم هيكل بالقانون التالي بوصفه أحد المبادئ الأساسية في سياق رؤيته للفعل الدرامي: «الفن يجب أن يؤثر بشكل عام» .
ولكن كيف يؤثر؟، ما شكل هذا التأثير؟، هل المؤثر وما يؤثر في هذا الزمان وهذا المكان سيكون له نفس التأثير والأثر في زمان ومكان آخرين!؟.
لقد انطلق هيكل من رؤية أن القوّة العامّة الكامنة في روح الإنسان والتي تشكل دافعاً قوياً للفعل المؤثّر ما هي إلا «الحماسة» وقد أطلق عليها هيكل التسمية الإغريقية «باثوس». إن الحماسة في جوهرها الهوى أو الولع.
الحماسة .. يحددها هيكل «على أنها القوة الروحيّة المبرّرة ذاتياً ومضمونها الجوهري الإرادة الحرة والعقل».
من هنا نرى أن أحد أهم المبادئ الدرامية التي تقدم بها هيكل في سياق نظريته الفنية الدرامية، والتي اختتم بها مرحلة بحثيّة علميّة طويلة بدأت مع أرسطو، قد بُنيت أساساًعلى متغيرات عقلية روحية حادة، وربما استطعنا القول أنها بنيت في جوهرها على محركات ودوافع غريزية عند الإنسان. بطبيعة الحال يقصد هنا بالغرائز الراقية غير المنحطة بالطبيعة البشرية، بل الغرائز المحركة للأصول المثالية الجمالية بصفتها دافعاً قوياً وراء الفعل الدرامي الفني للإنسان.

ديمقراطية الدكتاتور ضرورة أم إفلاس فني؟
من الغريب بمكان أن اجتمع مصطلحان متناقضان في فعل واحد من المفترض أن يعبر عن سلوك متّسق، وأن يدلل على حالة من الانسجام والتكامل في إطار علمي واعي وقاصد.
إن خصوصية الفعل المسرحي تُبرز لنا بوضوح قدرة هذا الفعل على الجمع بين متناقضات السلوك العقلي الفني للقائمين عليه، وبالتالي على إمكانية احتواء تلك المتناقضات وهضمها وتوظيفها بما ينتج عرضاً مسرحياً منسجماً مع ذاته.
عندما تبدأ التجربة المسرحية أولى خطواتها على طريق العرض، تشكّل المساحات والآفاق المفتوحة أمام المنبرين لهذه المهمة وإن كانت محددة نظرياً، بحراً من التفاصيل الفعلية والدلالية المرئية وغير المرئية التي تُكتشف في سياق التجربة، والتي تحتاج لعملية اصطفاء وضبط وتنسيق متقن في إطار الرؤية الكلية للعرض، إن مساحة الديمقراطية الفنية التي يُتيحها مخرج العرض لنفسه ولكادره في التجريب والبحث لكشف أقصى ما يمكنه الذهاب إليه، تُدخل التجربة شكلانياً في طور من التخبّط والضياع، ما يوحي حتى للقائمين على صناعتها بأنها حالة من الإفلاس الفني وفقدان للهدف وقصر في الرؤية . ولكن ما الذي يحدث فعلياً؟.
فعلياً تكون التجربة في طور الانتقال من حالة الكشف السطحي الأفقي العام، إلىحالة السبر العامودي العميق لمعنى ودلالة وشكل الفعل الممكن فتُظهر القدرات المتاحة، وتعمّق الأفعال الضرورية تلقائياً، وتخلّصها من الزوائد غير المفيدة وغير الهامة. إن هذه المرحلة بما توحي به من ضياع وتردد ضرورة حتميّة لإنجاز رؤية شمولية وأفعال محددة. ليصار بعدها إلى لملمة هذه الأفعال وصياغتها وسبكها في بوتقة توحدها، وتعطيها صفة الانسجام والتكامل الخارجي والداخلي، وبالتالي تعطيها المعنى والهدف الأعلى وتشد أواصرها موضوعياً ضمن شروط دكتاتورية على مستوى التطبيق، ذلك لأن مرحلة البحث والتجريب بما تحمل من إرهاق وتعب تشكل في جوهرها حالة إدمان ممتع لألم التجريبوالبحث، وربما اللعب أو اللهو ليصبح التنازل عنها وتركها وتقديم نتائجها بانضباط ومسؤولية بحاجة لموجّه صلب لا يقبل التردد أو التراخي . إن حالة الدكتاتورية الفنيةمن هذا الموقع ضرورة حتمية لحصاد النتائج، ما يعني إنتاج عرض.

إشكالية التوصيف العلمي
كيف تسنّى لنا وصف المسرح بالعلم إن كان يقف على كتلة من القواعد المتغيرة غير الثابتة؟! . ألا يشكك هذا بكينونته كعلم؟!.
كي نحاول الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نميّز بين أمرين، الأول . إن غالبية العلوم الإنسانية اتفق على قواعدها كمسلمات ثابتة، وسارت بعدها باتجاه توظيف نتائج بنائها على هذه القواعد في خدمة الإنسان والبشرية ضمن أنساق واضحة محددة بمعزل عن منتهاها وعن حكم القيمة الأخلاقية عليها، الأمر الثاني . إن بعض العلوم الإنسانية وعلى رأسها الفنون، بما تحمل من صفات أميزها الذاتية والخصوصية كانت ولازالت قواعدها و منطلقاتها موضع خلاف وأخذ ورد وتبدّل، ولكن اتفق قطعياً وبحكم التجربة الواقعية على أهمية نتائجها في تطوير الحياة الإنسانية رقياً فكرياً وسلوكياً.
إذاً اتُفق على منطلقات وقواعد العلوم الإنسانية المجردة مُكتسبة ًصفة العلمية بمعزل عن نتائجها و مستقراتها، بالمقابل اتُفق على مستقرات ونتائج الفنون الإنسانية وآثارها الايجابية على التجربة الحياتية الإنسانية مُكتسبة شرف الصفة العلمية، بمعزل عن قواعدها ومنطلقاتها.

عادل رشيد