المداخلات الثقافية / سعيد يقطين

أربعاء, 2014-07-02 18:43

من بين الأسباب التي تقف حجر عثرة أمام إقبال الجمهور الثقافي على الندوات والمؤتمرات الثقافية والأدبية، نوعية المداخلات، من جهة، وطريقة إلقائها من جهة ثانية.
صار من تقاليد الندوات العربية تمحورها على قضية محددة، وتفرعها إلى محاور جزئية. وبغض النظر عن بعض المداخلات التي لا تكون صلتها بالمحور المركزي إلا من جهة العنوان لأن موضوع المداخلة بعيد كل البعد عن القضية المطروحة، نجد النوع الثاني، من المداخلات، يتصل بالموضوع، لكن ذلك لا يشفع له لأنه لا يتجاوز استعراض معلومات مكرورة، وبلا إشكال يعطي للورقة خصوصية في التحليل والمقاربة. أما النوع الثالث من المداخلات فيتصل بدوره بالموضوع، وبأسئلة محددة، وتأطير منهجي واضح، بالقياس إلى الجيش العرمرم من أوراق المتدخلين. لكن هذا النوع لا يكاد يثير الاهتمام لقلته، ولأنه يظل ببساطة خارج السرب العام.
انتقد مصطفى صادق الرافعي، منذ قرن من الزمان، طريقة التأليف التي كانت سائدة في مصر في بداية القرن، بقوله إنها تعتمد «الطمّ والرمّ»، ويعني بذلك «ما لا يقصد به إلا إلى الكثرة». وكان ذلك زمان الطباعة، أما مع الرقامة فليس هناك سوى «القصّ واللّصق»، من جاهز ما يقدم من محركات البحث، في موضوع الندوة. ويتابع الرافعي: «وهم في ذلك لا يميزون خبيثا من طيب، وهم مع ذلك يظهرون الاستبصار فيه، ويتكلفون التبجح به». لا فرق بين بداية القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة، على مستوى المضمون. لكن الفارق الجوهري، على مستوى الطريقة، يبدو في أن المؤلف كان يعود إلى المصادر المخطوطة والمطبوعة، ويبذل مجهودا في نسخ ما يجمع من مواد. أما الآن فمحركات البحث تضطلع بتقديم الجاهز، ولا يبقى غير القص واللصق؟
إن وراء تفشي هذا النوع من المداخلات يعود إلى أسباب كثيرة، من بينها طبيعة الترقي الجامعي التي ولدت «الدعوات المفتوحة». أما المقصود بالدعوات المفتوحة فهو أن المنظمين يرسلون دعوة النشاط الثقافي إلى مختلف الجامعات، ويتلقون مداخلات أو عناوين أو ملخصات يتم بمقتضاها دعوة المتدخلين، ما دامت جامعاتهم تتكلف بالتذكرة (وهنا ستظهر المحسوبية)، أو يتحمل المتدخل ثمن التذكرة. فتوفر الجامعة على نفسها مصاريف السفر، وحتى ربما الإقامة. صارت بعض الدعوات، تطلب المشاركات المادية للمتدخلين، إسوة ببعض الجامعات العالمية؟ ومن بإمكانه أن يدفع أكثر تكون حظوظ أسفاره أوفر؟ ما دام يتيح له ذلك مساهمات عديدة، تجعل ملفه «العلمي» متضخما بالمشاركات في المؤتمرات «الدولية» المحكمة؟ أما «نوع» المداخلات التي يقدمها هذا «الطالب» للترقية، فلا يهم؟ يعني هذا أن اللجان التنظيمية؟ قد لا يصبح يهمها نوع المشاركة، ولكن عدد المشاركات، والنشاط في حد ذاته، ما دام ذلك يوفر عليها ميزانية تنتهب في جوانب أخرى؟
إن الدعوة المفتوحة والترقي جعلا «البحث العلمي»، لست أدري لماذا يتحدثون عن «البحث العلمي»، وهو يكفرون به عمليا؟ لا يكون خالصا لـ «البحث»، ولكن فقط للارتقاء من درجة إلى أخرى. لذلك فـ»الكاتب» لا يكتب، أو لا ينتج إلا للحصول على الترقية، وليس له أي هم معرفي أو سؤال ثقافي. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد صار العديدون لا يكتبون إلا للحصول على الجوائز التي يترشحون لها سنويا. ولا فرق بين الترقي والجائزة. فقد صار «المال ولا شيء غير المال»، الآن، بديلا عن «النص ولا شيء غير النص» الذي كان بالأمس. لذلك فالسرقة التي ضبطت لحاصل على جائزة مشهورة في كتاب حول «النقد الثقافي»، لا يبين لنا سوى نوع الكتب التي تؤلف، والمداخلات التي تقدم للمؤتمرات العربية، وقد صارت تضاف إليها كلمة «دولية». وما دامت الأشياء مترابطة، فلا فرق بين «الجامعي»، و»الجامعة». فحتى الجامعة، صار لا يهمها «البحث العلمي» الحقيقي، لأن همها الأساس هو أن «ترتقي» في سلم ترتيب الجامعات على المستوى الدولي؟ ولا فخر.
لا يقف الأمر على حد مداخلات «الطم والرم»، أو «القص واللصق»، ولكنه يتعداه إلى طريقة إلقاء المداخلة. والطريقة وليدة الإعداد. وحين يكون الإعداد بلا جهد، تكون طريقة الإلقاء بلا قصد. وهنا تحضر معضلة الزمن. قد تكون بعض الجلسات ثقيلة، بكل المعاني: كثرة المتدخلين وقلة الزمن. ويكون رئيس الجلسة أمام ضرورة تقليص المدة المخصصة لكل متدخل. وهنا يحصل الارتباك الأكبر. فـ»المسترقي» (طالب الترقية)، أعد ورقته بالرم واللصق، وعليه أن يقرأ ما رمم وما لصق، وأي اختصار للورقة تبعا للوقت سيفسد اللعبة، وينكشف المستور: لا إشكال ولا سؤال، ولا تدرّج في تناول القضايا، ولا ترتيب… ولا خلاصات. يتعب «الجمهور الثقافي»، وهو يجد نفسه أمام القفز، وطي الأوراق، والانتقال العشوائي، والقراءة السريعة فلا يحصل على شيء مما يُقرأ عليه.
إن أول درس نتعلمه في البلاغة: لكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل. لكننا مع المداخلات «المفتوحة» حيث المرسل والمتلقي مباشران، أمام نص مقروء؟ كيف تقدم مداخلة في أكثر من عشرين صفحة بواسطة القراءة، وصاحبها غير قادر على تقديمها شفويا، وملخصة في بضع دقائق؟ وتكون الطامة أكبر مع من يريد استعمال العارض الإلكتروني. فتجد الشريحة المقدمة نصا كثيفا، وطريقة تقديمها أردأ، لاستعماله تقنية جديدة في العرض بطريقة تقليدية في القراءة؟
نوعية المداخلات، وطريقة إلقائها، لا يمكنها إلا أن تنفر الجمهور الثقافي. ولكنها، مع ذلك، تسهم في ارتقاء «الجامعي» المتدخل، وترتيب «الجامعة» المنظمة؟

سعيد يقطين