الشاعر يرتكب الحضور.. الشاعر يستعيد الغائب..

خميس, 2014-07-03 01:37

هاتف جنابي شاعر يساكن اللغة، يلوذ باستعاراته بحثا عن الاطمئنان، بوصف اللغة مهيمنة، وقماشة للتدوين، ومغامرة لاكتشاف العالم، وفضاء مفتوحا للتفكير بالاشياء والسيميائيات، لكنها ايضا تتحول الى ما يشبه (المنفى الضدي) اذ كثيرا ما تبدو القصيدة وكأنها نصه التعويضي، او (تعزيمة) للخلاص..
المنفى اللغوي والمنفى المكاني يأخذان الشاعر الى الحجيم والمطهر، حيث يمارس اسفاره باحثا عن كينونته، عن خلوده، عن سرائر موته…
في ظل مهيمنة المنفى يستدعي الشاعر ظله اللغوي المقصي ليمارس معه لعبته الاثيرة في استعادة وجوه الامكنة، اذ يستدعيها من خلال ثنائية الحضور والغياب، او من خلال استنطاق شغفه ورموزه ليواجه بها احساسه العميق بالفقد، وقلقه المريب ازاء مايهدده في المنفى..
قد يزعم هذا الشاعر ان الكتابة هي مدونته الحافظة، وهي مغامرته للسيطرة على فكرة الغائب، لكنها بالمقابل تتحول الى (شقاء) عميق، اذ تمنحه صفة الرائي، وصفة الباحث عن التطهير، والكاشف عن البياض. تلك الكتابة لاتعدو رغم كل ضجيجها الاّ ان تكون محاولة للتخفف من اعباء هذه الهواجس التي تلاحقه، عبر اشباح الامكنة الاستعارية، تلك التي تركض خلف خطواته العجولة في امكنة المنفى التي لايطمئن اليها..
الشاعر ينصرف الى تقصي رغبته العميقة والسرية في مواجهة فوبيا التذكر، مفسحا المجال لأناه الرمزية، اناه الشقية، لتكون الباعث على استكناه تلك الرغبة التي كثيرا ماتتراجع بهوس- تحت ضغط مهيمنة المنفى- الى الداخل، لتلامس تفاصيله الصغيرة الخبيئة والمتوهجة، والمشبوبة بالشهوة والاستعادة، او بحراشف الجسد، شيخوخته، حيث استعادة ما يراه الغائب..
في قصائد مجموعته الشعرية (رغبة بين غيمتين) الصادرة عن دار الغاوون/ بيروت، يحمل الشاعر هاتف جنابي رغبة الكتابة تماهيا مع فكرة الاشباع، اذ تتحول وكأنها الهاجس الذي يدخله في سلسلة من التوترات التي تجعله يحتفي بالتفاصيل الصغيرة، بالهامشي واليومي المستعاد، يحتفي بها لانها استعادة للغائب، للذة، للاشباع الطفلي اللغوي والتعبيري، وربما لانها شفرة وعيه (الشقي) باسئلته، والذي لايكتمل مع العالم الاّ عبر ما يراه، وعبر ما تضج به كينونته السابحة بضجيج ماتحمله عوالمه الجوانية، تلك التي تعاني من الاغتراب الوجودي، اغتراب الكائن والكينونة، واغتراب المعنى، وهو ما يجعل الكتابة نوعا من الاشراق الباعث على الاحساس بالمفارقة، والعودة، والاحساس بالتحوّل، اذ تتحول معها رؤيته الشعرية الى رؤية بصرية مشبوبة بأحوال مايكشفه الحضور في المنفى المضلل والشائه..
قصائد المجموعة هي قصائد الذات، التي ترث الجسد المنفي وحراشفه المتناثرة، تتحدث عن ما تراه، وما تهجس به، ومايمكن ان يتصل بها، وهي لا تنحو الى نزوع صوفي لاستغوار هذه الرؤيا، واصطياد هذا الهاجس، بقدر ما تجد ان حضورها او بوحها هو بمثابة التصريح الصادم ـ تعبيريا- عن رغبة الشاعر في اماطة كل ما يحوطه من اقنعة كانت تضلله في المنفى، وتمنح حضوره اللغوي الاستعاري قوة مخادعة لاجود لها الاّ عبر اجتراح المزيد مما يرتكبه من الاستعارات والرؤى وشهوات التذكر..
لم أرثْ من ذلك الجسد
غيرَ حراشفه المتناثرة
ويدين كمكنسة في عاصفة
وشفتين لشهقةٍ منطفئة
لم أرثْ شباكَ الخديعة
شأن العناكب
ولا حتى تأوهات عاهرة عابرة
ولا راجمات الغيب ولا بسالة النمل في مقبرة
كلّ أنّةٍ من زفيري
ترتدّ مرتطمة
بشاراتِ السماء المُضلّلة

هاتف جنابي يحرضنا على قراءته لانه يحاول كسر ايهامية المنفى، وممارسة الهجرة المعاكسة الى ذاته، ذاته المفجوعة باستعادة الغائب ، اذ يستعيد عبر صوتها الخفيض، المهذب، صدى اصواته القديمة الضاجة، تلك التي تبدو اكثر الفة، واكثر تدفقا، اذ يتلمس شهقتها، خطوط اثرها، قسوة وحشتها، يتعرف من خلالها على لحظته المفارقة التي يصطدم فيها بوصفه حامل (عواء الانا) والمكشوف على عرائه الفادح، عراء الروح والرؤيا، عراء الغائب الذي يوهمه باستعادة الوجوه الغائرة، والاسماء التي توحي بخلاصه من (ذكرى) الموت الوطني، وما تطفح بها الامكنة واليوميات التي شهدت اغتيال طفولته، تلك التي كنت تتبعه، تغويه، وتتسلل الى غربته الوجودية بنوع من الرهاب اللغوي الذي يساكنه ويشاطره كرعب للحلول في جغرافيا الهجرات وعذاباتها واطمئناناتها المغشولشة ولغاتها المتبلبلة المكتظة بحنين يتسلل عبر شقوق مايراه ومايكتبه.
رمزية البياض تبدو اكثر حضورا في نسيجه الشعري، ليس لانه اللون الاصفى، او اللون الغامض الباعث على الفراغ، وانما لانه المعادل الوجودي لتاريخ طويل من السواد الذي استلبه والقى به الى ارض جنياته وشياطينه. ولعل نشيد برابرته يحمل هو الاخر شفرة بعض نشيده الشخصي، الذي يتمثل رمزية مايراه الغائب، المنفي، المصاب بفوبيا الاعداء، البرابرة الذين لايرحلون. نشيد البرابرة يشكل عبر ما يستحضره من استعارات توليفا هو اقرب الى المسرح المحتشد بمشاهد تجسد دراما لعنة اغترابه الوجودي والروحي.
في مملكة الفقدان ِ
ومنفى النور الثمل ِ
خلفَ إشارات ٍ أو كلمات ٍ تسعى
أنْ تُمسك بالريح المنفلتة
بالنسر الضاحك خلف ضباب الوادي
أنْ تفتحَ آفاقَ المعنى المتناثر في تابوت الحدقة
ما العتمة إلا ضوءا مستترا في جبروت الغيب
ما العتمةُ إلا طميا يتقادمُ في مرمدة النور.
حجر يطرق بابَ الرؤيا
نظرٌ مأسور بالصدفة.
أ أنا المأسور أم النظرة؟
بهذا النزوع الذي يتعقب فيه الشاعر شواهده الموغلة في الامكنة البعيدة، تنحو الكتابة الشعرية الى التماهي القاسي مع ما يعيشه الشاعر من اغترابات لا (معمار للبراءة) فيها كما يقول كاظم جهاد، اغترابات لا تنقذه اللغة من صمتها المروع، ولا تبرر له الاستعانة الاّ بالامكنة التي يستعيدها بشراهة، لكنها تحرضه على ارتكاب شهوة التذكر.
الشاعر يفقد في منفاه امتداده الذي كرسه كوجه ضائع مغلول الى المتاهة، هذا الوجه الذي كان قد اسبغ عليه وجها آخر شديد الغلظة، هو امتداد للعراق السياسي القديم الذي طرد اولاده من جنته، ليتركهم ضالين، ضاجين مرتبكين، يبحثون عن اوطان طارئة، اسقطهم في (النسق المقطوع) المانع عنهم الانبعاث في جينالوجيا السلالة، وشهوة التواصل. تلك التي تحولت الى مشكلة وجودية كرست طرد اكثر من ثلاثة اجيال من الشعراء الى مناف عشوائية، فضلا عن انها تحولت مشكلة نقدية وتاريخية اسهمت في تكريس عزلة الظواهر الشعرية، وفرض اشكال من المهيمنات التي شوهت جغرافيا الشعر العراقي المعاصر بين ارخبيلات المنافي وبين العزلات الداخلية والتي عزلتها بالقسر عن موجهات القراء ة الفاعلة التي تؤسس شرطها على اساس التعرّف على كل وجوه التجربة الشعرية، خاصة وان تشكل الظواهر الشعرية العراقية كان الاكثر ارتباطا بحميمية التعرّف تلك والتي اصبحت جزءا من صناعة اسئلته واشتغال نقاده ودارسيه الذين اصطروا لصناعة غائمة كرست طوال اكثر عشرين عاما نسقا مقطوعا لايطمئن الى شعراء الضفة الاخرى الذين لم يستطيعوا للاسف ان يصنعوا نسقهم الهارب، بل اكتفوا برعب الحنين واستعادة غبار العائلة.
*كاتب عراقي

علي حسن الفواز