مسؤولية الأجهزة الرقابية في تحقيق الشفافية

أربعاء, 2015-01-28 11:15

تعد الشفافية في أبسط تعاريفها هي العمل في العلن بطريقة تسمح بالحصول على المعلومات الكافية عن أداء المؤسسات والأجهزة الحكومية وغير الحكومية التي تستفيد من المال العام، بداية من أعلى مؤسسة في البلد وصولا إلى أصغر هيئة حكومية، مع مراعاة الاستثناءات التي ترد على هذه الشفافية كتلك المتعلقة بحماية أمن الدولة، واحترام مبدأ السر المهني، هذا المبدأ الذي ينبغي  أن لا نفسره بنطاق يؤدي إلى إفراغ الشفافية من محتواها كوسيلة للحكم الرشيد.

 لقد استخدم مفهوم الشفافية قديما كآلية  لحماية الأموال العامة ،حيث نجد أن سقراط كان يقول:ّ (من أجل حماية الخزينة من السلب عن طريق الاحتيال ،ينبغي صرف الأموال  جهارا نهارا تحت سمع وبصر المدينة بأكملها).أما اليوم ونتيجة للكثافة السكانية التي شهدها العالم ،والثورة العلمية والعملية التي عرفها ،فقد أصبح للشفافية مفهوما مغايرا ،حيث تستخدم كدليل على الوضوح في العمل و آلية من آليات الحكم الرشيد ،ووسيلة لتحقيق التنمية. وقد عرفت هيأة الأمم المتحدة الشفافية بأنها هي: "توفير المعلومات و العمل بطريقة منهجية تسمح لأصحاب الشأن بالحصول على المعلومات الضرورية للحفاظ على المصالح و إنجاز القرارات المناسبة و اكتشاف الأخطاء".

وقد نص القانون الموريتاني المنظم لمحكمة الحسابات رقم 93-19 الصادر بتاريخ 26 يناير 1993،والمرسوم المنشئ للمفتشية العامة للدولة رقم 2005-122 الصادر بتاريخ 19 سبتمبر 2005 ،على أن من بين اختصاصات هذه الأجهزة الرقابية تحقيق الحكم الرشيد ،الذي تعتبر الشفافية من أهم دعائمه ؛غير أن عدم تطبيق هذه النصوص والآليات المتبعة عمليا لتنفيذها، قد يخل بالمسؤولية القانونية والأخلاقية لهذه الأجهزة في القيام بدورها في تعزيز الشفافية؛ في وقت تتزايد فيه الرهانات على أهمية دور هذه الأجهزة، نظرا لما لها من إمكانيات بشرية ومادية، وما تتوفر عليه من ضمانات في الولوج إلى المعلومات.

وقد أضحى الاهتمام في الآونة الأخيرة بالشفافية ،أحد انشغالات الرأي العام الوطني و الدولي و كذا الخبراء المهتمين في شتى أنحاء المعمورة، بحكم المكانة الإستراتيجية التي تحتلها الشفافية كآلية للتنمية المستديمة، وهو ما برهن عليه الاجتماع رفيع المستوى حول الشفافية و التنمية المستديمة في إفريقيا- بتاريخ 19-20 يناير 2015- انواكشوط ،و ما نتج عنه من جدل ونقاش؛ حيث تطابقت آراء المؤتمرين على أن غياب الشفافية يؤدي إلى ظاهرة الفساد و التدفقات المالية غير المشروعة، و أن هذه الظاهرة لا تقتصر على إفريقيا فحسب، بل إنها بمثابة حرب يعاني منها الجميع، فضلا على أنها المسبب الرئيسي للصراعات في القارة الإفريقية. وقد أكد المؤتمرون و الخبراء على أن بمقدور الأجهزة العليا للرقابة بل من واجبها بذل كل الجهود لإشاعة بيئة معادية للفساد بشقيه الإداري والمالي؛ اعتبارا لما يمثله من مشاكل جسيمة تضر كل البلدان، وإن بدرجات متفاوتة .

مما لاشك فيه أن دور الأجهزة الرقابية في موريتانيا قد تعزز منذ وصول رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم بتاريخ 3 أغشت 2008، وهو ما تجسد في عمله على مواجهة المظاهر السلبية لغياب الشفافية، كتفشي ظواهر البيروقراطية و سوء التدبير و اللامبالاة إزاء قضايا المواطنين و الاستثمار، حيث أنه عبر في أكثر من مناسبة وطنية على أهمية الشفافية في تحقيق التنمية ، و تأكيده المستمر في أكثر من مناسبة على أنه لا مكان للمفسدين في تسيير الشأن العام في موريتانيا الجديدة، موريتانيا الداعمة للشفافية في كل شيء؛ بدءا من اعتماد الشفافية في الصناعات الإستخراجية؛ وصولا للشفافية في الحكم و التسيير.

 كما يعد عقد المؤتمرات للارتقاء بالشفافية خطوة إيجابية في تحقيق التنمية المستديمة ، تنضاف لمسلسل الإصلاح و التدبير العمومي الجديد ،و التجديد الذي يقوده سيادة الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ غير أن هذا الارتقاء بالشفافية على هذا النحو يتطلب خلق دور جديد للأجهزة الرقابية بوصفها المسؤولة الأولى عن احترام الشفافية و ترسيخها على أرض الواقع ،فكما قال سيادة رئيس الجمهورية في افتتاحه للمؤتمر رفيع المستوى حول الشفافية و التنمية المستديمة في إفريقيا ).. إن الشفافية التزام أخلاقي علينا جميعا احترامه كل من موقعه، فهي مسؤوليتنا اتجاه بلداننا، ومواطنينا و أمام الأجيال القادمة...(؛ فهل التزمت الأجهزة الرقابية بدورها في تفعيل الشفافية؟ أليس من الضروري تفعيل آليات الرقابة لتواكب مطلب الشفافية الذي نادى به  رئيس الجمهورية؟ ما الذي يجنيه المجتمع من هيئات رقابية لا تميط اللثام عن الحقيقة الكاملة لما يدور في الغرف المغلقة للتدبير؟ إلى أي حد يمكن أن تساهم الشفافية في تدبير الشأن العام؟ وأخيرا ما هو الدور الذي يجب أن تساهم به الأجهزة الرقابية لتحقيق الشفافية ، نظرا لما تتوفر عليه من وسائل لتحسين مردودية الانفاق العام و العمل على رفع أداء الجهات الخاضعة للرقابة من خلال نشر التقارير و إصدار التوصيات الهادفة؟.

إن تفعيل دور الأجهزة الرقابية في تحقيق الشفافية والتنمية المستديمة، يقتضي  إخضاع هذه الأجهزة للتقويم المستمر ،من أجل تحديد المشكلات والمعوقات التي تعترض العمل الرقابي والشفافية ،وإيجاد السبل والوسائل التي تؤدي إلى التغلب عليها  ،ومن الآليات المهمة والضرورية للشفافية أن تشكل بنيات تنظيمية داخل كل الأجهزة الرقابية تعنى بالشفافية (أولا)،هذا زيادة على الحاجة الماسة إلى نشر التقارير بشكل مستمر(ثانيا).

أولا:تشكيل وحدات تنظيمية داخل الأجهزة الرقابية تعنى بالشفافية

مبدئيا يمكن القول أن جدوائية أي أجهزة رقابية لا تقتصر على ضبط هيكلتها وتنظيمها؛ وإنما الجدوائية الحقيقية هي تلك التي ستقوم بها العناصر البشرية المدبرة والموجهة لهذه الأجهزة ،غير أن ذلك لا يمنع من القول بأهمية خلق بنيات تنظيمية داخل الأجهزة الرقابية تعنى بتعزيز  الشفافية ،كما هو جار به العمل في أجهزة رقابية غربية وأجنبية؛ لأن إنشاء إدارات داخل الأجهزة الرقابية مكلفة بالشفافية سيمكنها من القيام بمسؤوليتها ،ويمكنها من الانفتاح المستديم على محيطها الداخلي والخارجي ،الجهوي والدولي ،فهذه البنيات إن وجدت ستشكل إضافة نوعية للأجهزة الرقابية ،تجعلها في مستوى تطلعات رئيس الجمهورية والرأي العام الوطني والدولي .

وفي هذا السياق فإننا نلمس بصفة واضحة مؤشرات تدل على توفر بلادنا، على إرادة سياسية كبرى للنهوض بالشفافية ومحاربة الفساد والمفسدين ،ويكفي للبرهنة على ذلك التذكير بخطاب رئس الجمهورية في إعلان انواكشوط حول الشفافية والتنمية ؛هذا الخطاب الذي حث فيه على ضرورة نشر ثقافة الشفافية ؛وكذا توجيهاته السامية للحكومة في اجتماعها الأسبوعي بتاريخ 22 -01-2015 على أن تحرص على ترسيخ الشفافية في تسيير الشؤون العامة.

ومن موقعي كمواطن موريتاني ،وباحث في الأجهزة الرقابية فإني أثمن هذا المكسب الوطني الكبير المتعلق بترسيخ الشفافية؛ وحضورها في الخطاب الرسمي للدولة قيادة وحكومة؛ بالإضافة إلى مكاسب أخرى ينبغي أن نفتخر بها ونحافظ عليها؛ لذلك على الأجهزة الرقابية استثمار الرغبة السياسية، وتوجهات القيادة الوطنية لتفعيل دورها في تعزيز الشفافية ،وسيكون إنشاء هذه الوحدات أداة أساسية لجعل دورها أكثر فعالية وصرامة.

ثانيا :نشر التقارير بصفة مستمرة كآلية لتعزيز الشفافية

يعد نشر التقارير التي تقوم بها الهيئات الرقابية من أهم الآليات لتعزيز الشفافية ،وتبسيط الولوج إلى المعلومة ،فمن باب الشفافية تيسير إمكانية وصول المواطنين إلى المعلومات الخاصة بالرقابة، فنشر التقارير أمر مهم وضروري لفعالية الرقابة وتحقيق التنمية المستديمة لأنه يلعب دورا بيداغوجيا كبيرا؛ فالقائمون على التسيير العمومي عندما يطلعون على التقارير الصادرة عن الأجهزة الرقابية سيتعرفون على المخالفات التي يجب الابتعاد عنها ؛وأنماط التسيير التي يجب تجنبها ؛ فضلا على استفادتهم من التوصيات والاقتراحات التي يتضمنها التقرير؛ كما أن نشر التقارير يمكن الصحافة والرأي العام من التعرف على أوجه صرف المال العام ومدى حرص المتدخلين في تدبير الشأن العام على الاقتصاد والفعالية والكفاءة.

فمنذ تأسيس محكمة الحسابات سنة 1991 بموجب الدستور الموريتاني، لم تقم إلا بنشر تقريرين للعموم هما تقرير 2005 وتقرير 2006، ففي الوقت الذي ينصب فيه اهتمام الباحثين والدكاترة والخبراء في بعض الدول على  نقاش  منهجية التقارير التي تصدرها الأجهزة العليا للرقابة في بلادهم ،مازال الباحث والمواطن الموريتاني يتساءل أين هي تقارير محكمة الحسابات؟ متى ستصدر؟ ولماذا لم تصدر؟، كما أن المفتشية العامة للدولة منذ إنشائها سنة 2005 لم تنشر للعموم إلا ثلاثة تقارير عن الأنشطة التي تقوم بها ،وهذه التقارير مختصرة وغير ممنهجة علميا؛ بخلاف ما تبنته بعض الأجهزة الرقابية المقارنة ،ففي فرنسا مثلا تتوفر الغرف الجهوية للحسابات على قنوات متعددة لنشر تقاريرها، بل إنها تتوفر على مواقع إلكترونية تتضمن أعمالها ؛ كما نجد أن المجلس الأعلى للحسابات في المغرب يقوم بنشر تقارير مفصلة، دائمة ومستمرة كان منها تقرير سنة 2011 الذي يتجاوز عدد صفحاته أكثر من 1100 صفحة !

إن عدم نشر هذه الهيئات الرقابية للتقارير يتعارض حتما مع الشفافية؛ كما يتعارض مع مقتضيات الأمر القانوني رقم 2007-06 بتاريخ 12 يناير 2007، والذي ينص في المادة 48، على أنه يجب على محكمة الحسابات أن تقوم بنشر التقارير التي تعدها؛ ويجب أن تراعى في التقارير التي تصدرها الأجهزة مجموعة من القواعد الشكلية والمعايير التي تساعد على جعلها واضحة وغير غامضة ،فضلا على أن التقرير يجب أن يكون مدعما بحجج وأدلة كافية؛ فهذه التقارير هي السبيل الأمثل لتعميم ثقافة الشفافية؛ لأنها وسيلة قادرة على إيصال المعلومات وتعريف الرأي العام بتفاصيل الصفقات العمومية وشؤون تسيير الحكم؛ وما لم يتم التعاون والتنسيق الفعال والمدروس بين الأجهزة الرقابية والقضاء والإعلام، فإن الشفافية لن تتحقق بالقدر الذي يتناسب مع تطلعات القيادة السياسية، والرأي العام والخبراء. فالوقاية خير من العلاج ؛وأن تقوم الجهات الرقابية بنشر تقارير عن أعمال المفسدين، خير من أن تكون عونا لهم، بالتستر على تصرفاتهم الضارة بالوطن ،والتنمية المستديمة.

ونود هنا أن نشير إلى أمرين في غاية الأهمية، أحدهما أن التقارير التي تصدرها الهيئات الرقابية لن تكون فعالة، إلا إذا أسندت مهمة إعدادها ونشرها لعنصر بشري لديه القدرة والخبرة والكفاءة؛ أما الأمر الآخر فيتعلق بإرساء لامركزية الأجهزة الرقابية؛ حيث أن مركزية الأجهزة، واتساع مجالات تدخلها ؛جعلها عاجزة عن القيام بهامها في تعزيز الشفافية؛ فلا يمكن لأجهزة رقابية ممركزة في العاصمة أن تراقب دولة بأكملها ،وتكرس الشفافية فيها !

ومجمل القول ،فإن أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به الأجهزة الرقابية في الشفافية يجب أن ينظر إليه في محيطه ؛لأنه مهما بلغت درجة حداثة النصوص القانونية فإن فعاليتها ترتبط بمدى القدرة على تفعيل محتواها في مواجهة المفسدين بدون تمييز؛ ولن يتأتى كل ذلك إلا بخلق بنيات جديدة للشفافية؛ ونشر التقارير؛ فمن المحرج لنا كمواطنين ،وكباحثين في المجال أن لا نجد تقارير موضوعية عن الأعمال التي تقوم بها الهيئات الرقابية؛ لنستفيد من حقنا في الإطلاع عليها وحقنا في نقاشها والبحث في محتواها ،فلا يمكن أن تكون بلادنا شمعة للشفافية دون أن نوفر هذه الضمانات ونجسدها على أرض الواقع .

إنه على الجميع وخاصة الأطر القانونية المسؤولة عن الأجهزة الرقابية تحمل مسؤولياتهم القانونية؛ والتزاماتهم الأخلاقية في ترسيخ الشفافية؛ كما أمر بذلك رئيس الجمهورية في خطابه لافتتاح مؤتمر رفيع المستوى حول الشفافية والتنمية المستديمة في إفريقيا  ،وأن يعملوا على تكريس دولة الحق والقانون؛ ومحاربة الفساد والمفسدين؛ متدبرين قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام : (قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين).

ويمكن القول إننا في حاجة اليوم إلى أجهزة رقابية فعالة ،لديها القدرة على تعزيز الشفافية والتنمية المستديمة؛ ولديها الإرادة  لتتصدر المحافل الجهوية والدولية المتعلقة بالشفافية والرقابة؛ وأنا لا أخجل من الحلم، في ظل التوجهات السامية للقيادة السياسية- رئاسة وحكومة – بأن تكون موريتانيا لها أجهزة رقابية فعالة، قادرة على نشر ثقافة المساءلة والشفافية؛ وأن نتصدر العالم في الشفافية وحسن الرقابة؛ كما تصدرنا الدول العربية في حرية التعبير..وأن تنجح مقاربتنا الجديدة للشفافية من خلال إعلان انواكشوط حول الشفافية ،كما نجحت مقاربتنا الأمنية لمحاربة الإرهاب والغلو التي أصبحت نموذجا يحتذى به في المنطقة ؛فهل يتحقق الحلم يوما؟!

 

الشيخ سيدي المختار ولد ابوه

ماستر تدبير وتدقيق إدارات الدولة والجماعات الترابية

سنة ثانية دكنوراه القانون العام والعلوم السياسية

[email protected]