المعارضة و"الحوارومانيا" المزمنة

سبت, 2015-01-31 21:41

 

قررت المعارضة الموريتانية الراديكالية الإدلاء بتصريحات صاخبة وآراء متناقضة حول بعض التفاصيل والجزئيات المتعلقة بحوار سياسي لم توضع بعد اللمسات الأخيرة على مواضيعه أو على ترتيباته الإجرائية، في خطوة عودتنا عليها هذه المعارضة كلما لاح  في الأفق استحقاق انتخابي وطني.

 

1. هاجس "حكومة الوحدة الوطنية"

الجميع في موريتانيا يتذكر مبادرة المعارضة الراديكالية، سنة 2011، قبيل موعد التجديد الجزئي  لمجلس الشيوخ، عندما قررت التوجه كتابيا إلى الحكومة مطالبة إياها بتأجيل هذا التجديد وفتح حوار سياسي جامع، الشيء الذي قبلت به الأغلبية  انسجاما مع الدعوات التي وجهها الرئيس محمد ولد عبد العزيز في أكثر من مناسبة وخلال خطاباته إلى الأمة.  وفي النهاية، قررت المعارضة الراديكالية مقاطعة الحوار المذكور، معتبرة أن نذر "الربيع العربي" أجدر بالاهتمام... وقبيل موعد الانتخابات التشريعية والبلدية سنة 2013، أعادت المعارضة الكرة، فطالبت بفتح حوار جامع وتأجيل الانتخابات. وشهرين فقط قبل إجراء انتخابات يونيو 2014، طالبت المعارضة الراديكالية بفتح حوار سياسي جامع و...تأجيل الانتخابات الرئاسية. أما اليوم وبعد أن تم تحديد موعد تجديد ثلثي مجلس الشيوخ، ها هي المعارضة الراديكالية تقبل بحوار جامع وتطالب بتأجيل الانتخابات مجددا وتعيد طرح أفكار ما بعد داكار. فتوقيت رضوخ المعارضة الراديكالية الموريتانية لمبدإ الحوار السياسي الذي يسبق  بأيام قليلة كل موعد انتخابي والمحتوى السياسي التفاوضي  الجامد والذي يعتمد التعجيز والاستفزاز بشكل لافت، يؤكدان مما لا يدع مجالا للشك أن الهدف الأوحد من وراء ثورات  "الحوارومانيا"  التي تنتاب هذه المعارضة يكمن في  الحيلولة دون استتباب الأجندة الانتخابية الدستورية. فمفكرو المعارضة الراديكالية الموريتانية يعتقدون جازمين أن الإبقاء على شك ضعيف -ولو قابل للنقاش- بخصوص شرعية هيئة من الهيئات الدستورية الوطنية، يشكل ضمانا للإبقاء على  وهم  ما بعد تفاهمات داكار. إنهم عالقون نفسيا بمطلب حكومة الوحدة الوطنية الذي لم يعتمده رئيس الجمهورية إبان فوزه الكاسح في انتخابات 2009، لأن حكومة الوحدة الوطنية التي سبقت هذه الانتخابات كادت تقضي على تماسك وانسجام الأجهزة الرسمية للدولة، حيث تحولت القطاعات الحكومية إلى أملاك حزبية متنافرة. فبفوزه بأغلبية أصوات الناخبين الموريتانيين يصبح رئيس الجمهورية  مسؤولا أمام الله وأمام التاريخ عن التوجهات الكبرى للدولة و عن تدبير شؤون الأمة، ولا أحد -مهما كانت صفته- يستطيع أن يملي عليه طبيعة هذه التوجهات أو شكل هذا التدبير. ويتأكد هذا الدور في بلاد لا تزال الولاءات القبلية والعرقية والفئوية الضيقة  تطغى على الولاء للوطن وللمصلحة العامة. فالرهان الرئيسي لكل استحقاق انتخابي رئاسي يكمن في حسم الجدل حول الأحقية بمسؤولية تعريف المصالح الحيوية للبلد وتحديد أنجع السبل للذود عنها. والقناعة بالديمقراطية تبدأ بالقبول بنتائج صناديق الاقتراع، مرها وحلوها...  في هذا المنحى، يلاحظ  أن المعارضة الراديكالية الموريتانية لم تلتقط بعد أنفاسها بعد الهزيمة الانتخابية النكراء التي تجرعتها في الثامن عشر يوليو 2009،   حيث توقفت يومها "ساعتها السياسية" وانتابها ما يشبه "فوبيا صناديق الاقتراع".  إلا أنه وللأسف بالنسبة لهذه المعارضة، فإننا نعيش في سنة 2015، والرئيس محمد ولد عبد العزيز يتمتع بشرعية مضاعفة راكمتها انتخابات 2009  واستحقاقات نوفمبر-دجنبر 2013 واقتراع الواحد والعشرين يونيو 2014. ويشفع للرجل نهجه المتميز في تدبير الشأن العام وحصيلة تسييرية مقنعة على الأرض وعامل الوقت. إن محاولة اختزال عناصر التقييم هذه من خلال التخييم على وهم حكومة الوحدة الوطنية الذي لا مبرر له –ولله الحمد- إذ يشجع الأحادية الشكلية المنافية للديمقراطية ويهدد انسجام وانضباط أجهزة الدولة، إن محاولة هذا الاختزال تشكل "أم المغالطات".

2. مخاطر ...الهاجس

تترتب على خيار حكومة وحدة وطنية مخاطر جمة على بقاء الدولة الموريتانية، في ظرف إقليمي ودولي حرج.

 أول هذه المخاطر يتمثل في إمكانية عودة فيلق "قدامى المفسدين" الذين يتهددهم التقاعد الوظيفي والعمري والذين عانوا فطاما دام نصف عشرية ونيف، هؤلاء سيعودون بأساليبهم التسييرية المقيتة وبنية  التعويض (المالي) السريع عن فترة الفطام المنهكة.

 أما ثاني هذه المخاطر فتشكله  فئة "بلداء التسيير" الذين شابوا دون التعرف على إكراهات التدبير العمومي والذين سيحولون أي مرفق عمومي –إن هم وصلوا إلى دفته- إلى هيئة خيرية لكسب المال وتوظيف أقاربهم ومنتسبي أحزابهم وكسب ود ناخبيهم،  وسيتصرفون داخلها على نهج "الفيل داخل متجر الخزف"، الشيء الذي سيربك بسرعة نشاط هذه المرافق ويهدد استمرارية الخدمة العامة.

 الخطر الثالث  يشكل تهديدا للديمقراطية، إذ يتعلق بإمكانية حصول بعض الجهات السياسية على مسؤوليات استراتيجية وطنيا لا تبررها رؤية وطنية واضحة كرستها نتائج انتخابات شعبية. فتجاوز صناديق الاقتراع لصالح اتفاق سياسي مع أطراف لم يعد  بعضها وازنا انتخابيا بالشكل الذي يؤهله للإسهام في تسيير البلاد، إذ لم يشارك منذ وقت طويل في أي استحقاق انتخابي، سيولد انطباعا سلبيا عن السياسة  والسياسيين لدى الرأي العام الموريتاني، في بلد رأى أغلب سكانه الحاليين النور خلال عصور الاستبداد...

أما الخطر الرابع فيتعلق بالتنوع الكبير داخل كشكول "المنتدى"، حيث تنشط ضمنه، بالإضافة إلى أحزاب سياسية هامشية من المنظور الانتخابي، زمرة من المنظمات النقابية و"الشخصيات المستقلة"(؟؟)، متباينة السير والأفكار والأهداف، بشكل  سيكون من الصعب جدا معه  دمج هذه "الحياة البرية" المتنوعة داخل الأجهزة الرسمية دون إحداث ارتباكات قد تعصف بأركان الدولة.   

أما الخطر الأخير و...الأخطر، فهو التأثير السلبي لأية حكومة وطنية محتملة على  نهج توطيد الأمن (من باب تقديم "درء المفاسد" على "جلب المصالح") والحرب على الفساد والانحياز للفقراء التي انتهجها رئيس الجمهورية  منذ وصوله إلى السلطة سنة 2008، والتي مكنت سفينة موريتانيا من الإبحار بأمان رغم الأمواج العاتية والعواصف المدارية التي أغرقت أمما بكاملها...

3. سواء السبيل

للمضي قدما نحو مزيد الأمن والديمقراطية والنماء، كما دعا إلى ذلك باطراد فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز حيث لم يعترض قط مبدئيا على أية نقطة قد يحلو للمعارضة الراديكالية طرحها  على طاولة النقاش، فعلى هذه المعارضة الراديكالية أن تعيد إصلاح "ساعتها السياسية" وأن تقدمها بنصف عشرية كاملة وسنة، كما عليها أن تفهم أنه لا جدوى من إجراء حوار سياسي أمام عدسات كاميرات الإعلام وأن هناك فرقا لغويا واضحا بين مصطلحي "الحوار" و"المونولوج". بهذا وحده، يمكن للمعارضة الراديكالية أن تلج تدريجيا المشهد الديمقراطي الوطني عن طريق صناديق الاقتراع، هذا المشهد الذي اختارت حتى الأن وبمحض إرادتها أن تقصي نفسها منه.

سيدي ولد أحمد