الصيغ الوطنية والقومية العربية / د. فايز رشيد

جمعة, 2014-07-04 23:10

«إذا وقعت واقعة عظيمة لا تضحك ولا تبكي ولكن فكّر».. المقولة لاسبينوزا. وليس أدّل وأعظم من تلك الوقائع التي تجري في أكثر من دولة عربية، من حيث الخطر على البنية السياسية لهذه البلدان، والمترجمة في صراعات مذهبية وطائفية وإثنية، التي انتقلت إلى اقتتال داخلي وصولاً إلى التهديد بالحروب الأهلية داخل هذه الدول، أو شنّ هجمات إرهابية تكفيرية على مؤسساتها المختلفة، بما يهدد بإزالة البنية التحتية لكل دولة، وتداعيات ذلك في تخريب النسيج الاجتماعي الشعبي لشعوبها. لقد تزايد الدعوات التقسيمية من أطراف عديدة، تُتوج بانفصال لكل جماعة مذهبية أو طائفية أو إثنية. هذه المخاطر مهددة بالانتقال إلى دول عربية أخرى كثيرة.
ذلك يلتقي مع المخططات الأمريكية – الصهيونية- الغربية للوطن العربي وتجزئته وتفتيته. أبرز هذه المخططات، مشروع الشرق الأوسط الجديد المطروح كاستراتيجية أمريكية- إسرائيلية، ومخطط برنارد لويس المستشرق الأمريكي الجنسية، البريطاني الأصل، اليهودي الديانة، الصهيوني الانتماء. مستشار وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر 1977-1981، الذي اقترح مشروعاً تفتيتياً للوطن العربي وإقامة دويلات متقاتلة في العديد من البلدان العربية، ورسم من أجل ذلك الخرائط المنشورة. المشروع نوقش من قبل بيرجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر، تبناه الكونغرس الأمريكي بالاجماع، وصوت عليه عام 1983 في جلسة سرية.. تم إدراج المشروع كهدف استراتيجي للسياسة الأمريكية على المدى المستقبلي، وهذا ما يجري تطبيقه بحذافيره في هذه المرحلة. إلى ماذا يهدف هذا المشروع؟ باختصار يهدف إلى إشعال الصراعات المختلفة في الدول العربية.. تقسيمها وجعلها دويلات متحاربة على الدوام.. تصحيح حدود سايكس بيكو لتكون منسجمة مع المصالح الأمريكية – الإسرائيلية.. منع أي فعل جماعي تنسيقي عربي.. تأييد هذه الدويلات للتبعية للمجال الأمريكي وللاستعمار الجديد.. القضاء بشكل مبرم على الحلم الشعبي العربي بتحقيق أي شكل من أشكال الوحدة العربية، ولأحد هذه الأسباب بالذات، اتفقت الدول الاستعمارية في مؤتمر كامبل- بنرمان، الذي عُقد عام 1908 والذي كان يهدف إلى زرع إسرائيل في فلسطين لفصل الجزء الآسيوي من الوطن العربي عن جزئه الآخر الافريقي، كل ذلك لمنع الوحدة مستقبلاً، وللتآمر على الوطن العربي. من أسباب سياسة التفتيت والتقسيم كذلك: تمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد.. تسيّد إسرائيل وهيمنتها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، لتكون مكوناً رئيسياً من مكونات المنطقة.. المزيد من نهب الثروات العربية. بالفعل حاليا، الأكراد يهيئون للانفصال عن الجسد العراقي، وفقاً للتعليمات الواردة في تصريحات مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان، عقدوا معاهدة من قبل مع الكيان الصهيوني من أجل وجوده في شمال العراق (في دولتهم) وإيصال النفط العراقي إلى أسواقه، وبالفعل وصلت بعض الشحنات إليه. من أهداف التقسيم والتفتيت أيضا للوطن العربي: خدمة الأمن الإسرائيلي.. إثارة حروب إقليمية في المنطقة، وأسباب أخرى كثيرة غيرها.
للأسف فإن النظام الرسمي العربي مغرق في قطريته، ويعيش هاجس حماية الذات على حساب الفعل والتنسيق الجماعي العربي.. دول عربية بما فيها السلطة الفلسطينية عقدت معاهدات مع إسرائيل.. الغاز العربي المصري يصل الكيان الصهيوني وبأسعار تفضيلية، هناك تراجع كبير في عمل الجامعة العربية التي أصبحت تقليدية في أسلوب عملها، ومجالاً للتدخل في نشاطاتها.. الحصيلة نظراً للصراعات والقطرية العربية والاختلافات السياسية والتدخلات الغربية والإقليمية في أكثر من دولة عربية فإنه لا أمل على المدى المنظور بقيام أي عمل جماعي أو تنسيقي عربي جدي يؤثر في مجابهة ما يجري من أخطار ومخططات تستهدف الأمن القومي العربي بكامله، الذي يجري تهديده على قدمٍ وساق.
الخلافات وصلت للأسف، إلى القوى الوطنية والتقدمية القطرية بمختلف اتجاهاتها، إضافة إلى القوى ذات الاتجاه الديني (بالطبع خارج إطار الاتجاهات الدينية التكفيرية الأصولية المتطرفة)، وكذلك إلى القوى الديمقراطية والقومية، واليسارية أيضاً.. اختلاف في الوصول إلى برامج سياسية- اقتصادية- اجتماعية مشتركة لبلدانها،حتى في الدول التي شهدت تغييرات نتيجة الحراكات الشعبية الجماهيرية، لم تستطع هذه القوى الوصول إلى برامج مشتركة، والدخول كقوة واحدة سواء في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية.. القوى التي وصلت للحكم للأسف منها لم تعمل على استقطاب كافة الفئات والقوى الوطنية الأخرى في برنامج وطني مشترك للحكم الجديد.
الحصيلة مزيد من التشرذم في هذه القوى، بالشكل الذي استفادت منه بقايا الأنظمة السابقة، بالطبع إذا كانت القوى والأحزاب داخل كل قطر فشلت في الوصول إلى جبهة وطنية عريضة في بلدانها، فكيف يمكن تصور إمكانية تحقيق صيغ جامعة على الصعيد القومي؟ رغم الحاجة الملحة للوصول إلى هذه الصيغ، أيضاً فإن الاختلافات السياسية حول ما يجري من أحداث في هذه الدولة العربية أو تلك، أدّى إلى المزيد من التشرذم بين القوى والأحزاب على الصعيدين القطري والقومي. الانشداد يكون لصالح الطروحات والمصالح التنظيمية على حساب الموقف السياسي الموحد، بالطبع هناك ظروف موضوعية لذلك، ولكن هناك ظروف ذاتية أيضاً تتعلق بالايديولوجيات والسياسات المختلفة للقوى المختلفة، وبآليات عملها وأساليبها، ولعل من أبرزها مدى تطبيق ديمقراطية النهج في نشاطاتها، كذلك الانغلاق على الذات، وعدم الحرص على الوصول إلى الجماهير الشعبية وآرائها بما تمثل من باروميتر في الموقف من هذه القضية أو ذاك الحدث، وقلة الحوارات بين هذه القوى وانعدام الإرادة لصيغ العمل المشترك.
بالطبع توجد صيغ على مستوى الفعل الجماهيري العربي وهي: المؤتمر القومي العربي .. المؤتمر القومي- الإسلامي.. مؤتمر الأحزاب العربية، هذه أيضا لها أسباب وعوامل موضوعية وأخرى ذاتية أعاقت أن تكون هذه الصيغ مؤثرة بالمعنى الفعلي في الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وهي أيضاً عرضة للاختلافات السياسية بين الأحزاب والقوى القطرية والقومية المختلفة المواقف من مختلف الأحداث العربية، بما يؤثر على برنامجها، وما يصدر عنها من بيانات. هذه الصيغ مهمة، خاصة في هذه الظروف الحرجة، ومجرد الانعقاد هو بحد ذاته خطوة في الاتجاه الصحيح. كافة الصيغ والقوى والأحزاب القطرية والقومية بمختلف اتجاهاتها مطالبة بتجديد أساليب عملها وآلياته وتطويرها، بما يتلاءم مع المستجدات السياسية العربية والأخطار المحيقة بالوطن العربي كبلدان وكأمة. مطالبة بتحديث الخطاب السياسي لها وتطوير عملها في الوصول إلى الجماهير العربية، وتطبيق المزيد من أساليب النهج الديمقراطي في مؤتمراتها، والتجديد المستمر للعضوية فيها، خاصة على صعيدي الشباب وطاقاته والمرأة. المفترض أن الاختلاف لا يُفسد للود قضية، ولا يمنع الوصول إلى برامج وطنية وقومية مشتركة مع الآخرين.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد