مفهوم المواطنة وإملاءات السلطة

اثنين, 2015-03-02 12:34

السؤال عن مفهوم المواطنة يشبه عملية زج الرؤوس في خرم إبرة، بالنسبة للمثقف، لأنه يرتبط بمفهوم الحرية أولا عنده، وليس بمفهوم الصلاح المؤسساتي ـ مفهوم المواطن الصالح كما تطرحه رؤية السلطة أو الرؤية المدرسية لتعامل السلطة مع المواطن. فالمثقف لا يرى تحقيقا لمواطنيته وهو مكبوت ومحروم من حريته وعبر السؤال التالي: ما معنى أن أكون مواطنا في وطن لا يحترم حريتي في العيش والتعبير عما ينفع أو يضر في البرامج السياسية المسؤولة عن إدارة البلاد ومصلحة المواطن فيها؟ 
إذ المواطنة، أو مفهومها الحديث، لم تعد تعني الانتماء الأعمى لجغرافيا تسمى الوطن، كما طرحها الفكر القومي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، إنما هي صارت تعني مدى احترام من يديرون حدود الوطن لشخص وكيان وكرامة وحقوق وحرية المواطن. وهذا الكلام ليس دعوة لنبذ الوطن أو مفهومه المجرد، إنما هو دعوة لإرساء بنى مفهومية جديدة للوطن والمواطنة، تنطلق من كون المواطن هو العنصر الأهم في بنية مفهوم الوطن، وحوله وحول كرامته ومن أجلهما يجب أن ترسى قواعد المواطنة التي تمنح بقعة الأرض معنى أن تكون وطنا. لقد أملى علينا الفكر القومي، خلال حقبة النصف الثاني من القرن الماضي، فهمه الخاص لفكرة الوطن التي تقوم على مبدأ الواجبات أولا ثم الحقوق، على اعتبار أن الوطن، ككيان ووجود سياسي وسيادي، يجب أن يصان أولا… ولكن أليس المواطن بوجوده وكيانه الفردي هو الذي يستمد منه الوطن وجوده؟ وما معنى أن أنتمي لوطن وأمنحه، ما تطلبه سلطة السياسي، وأنا لست مصان الكرامة والحرية ومهضوم الحقوق ومستغلا… بل ومضحوكا عليه؟ 
على هذا الأساس ومن هذا الفهم ولدت دولة المؤسسات وولد فهم آخر لقيمة المواطنة، بأن لا تكون محض انتماء بهوية تعريفية لكيان سياسي يقوم على بقعة معينة من الأرض، وإنما تحول هذا المفهوم إلى مجموعة أو منظومة المؤسسات التي تصون كرامة الفرد المواطن وتحفظ له حقوقه وحريته… قبل أن تطالبه بواجبات الانتماء لهذا الوطن. ووفقا لهذا الفهم، تحولت شروط المواطنة الصالحة من صيغة ابتزاز الكيانية الفردية إلى صيغة تكريسها وفرضها، على مفهوم الدولة، كحق مقدس يجب أن تكرس المؤسسات لصيانته والدفاع عنه.
المواطنة ليست شعارا سياسيا، كما يحصل معنا في بلاد العرب، بل هي الجوهر والأساس الذي تقوم عليه دولة القانون ودولة المؤسسات، التي كان من بين أول أهدافها تأسيس مفهوم حقوق الإنسان وتأكيد فردية الإنسان واحترام كيان وحرية هذه الفردية، باعتبار المواطن ـ كفرد ـ هو الأساس الذي يقوم عليه مفهوم وكيان الدولة، وليس بقعة التراب المجردة، كما طرحتها أدبيات الأحزاب التي رافقت حركات التحرر من الاستعمار المباشر، في الربع الأول من القرن العشرين وما تلاه.
ومن جهة مؤسساتية، فإن المواطنة، ولأنها صارت حقا طبيعيا وليست مطلبا فرديا، فإن مفهوم المؤسسات ومفهوم الدولة الذي يقوم على فلسفتها، يجب أن يكون مؤسسا وفق فهم تكريس وصيانة حقوق المواطن وحمايتها من تلاعبات وشطط الساسة، وليس أن يكون دور المؤسسة تنظيميا، شبه وهمي، ويستغل لأمر حماية السلطة وبقائها في مقاعد الحكم، كما هو حاصل في بلادنا العربية.
المشكلة معنا كعرب، وبالدرجة الأولى، هي ثقافية وتتعلق بوعي الفرد العربي بأمر حقوقه الفردية، خاصة أن معظم أجياله ـ في ما بعد التحرر من هيمنة الاستعمار المباشر ـ ثقفته الأنظمة السياسية، عن طريق مؤسساتها النابعة منها والتابعة لفهمها، على فكرة الرعية والخنوع لذوي السلطة، وهو الامتداد الطبيعي لثقافة ضباط العسكر الذين قادوا انتفاضات التحرر من الاستعمار، في منتصف القرن الماضي، وهي ثقافة الإقطاعي الذي كانت تستخدمه إدارة الاستعمار كمخلب لكبح تململات الشارع العربي ضد الطغيان، وهي كانت بمرجعية ثقافة الرعية التي كان يسوس بها الإقطاعي فلاحيه وأجراء العمل الزراعي في أراضيه.
ولأن فكرة الحكم الوطني التي طبقها ضباط انتفاضات التحرر، ومن بعدهم ضباط الانقلابات الداخلية، عملت على تكريس بقائها في السلطة (عبر مؤسساتها التعليمية والإعلامية والدعائية) فإنها عملت على تثقيف الشارع العربي على فكرة ان المواطنة تعني تبعية الفرد للوطن وسيادته والمحافظة على أمنه الداخلي والخارجي، وهي فكرة الرعية الخانعة بامتياز، خاصة أن المواطن العربي مازال يتجرع مرارات الاستعمار… وذاكرته تنبض بآثار وجع سياطه.
وبما أن هذه الثقافة قد حقنت في عقل ووجدان المواطن وعواطفه عن طريق مؤسسة المدرسة والجامعة، وتحت رهبة وترهيب سياط قمع السلطة وبنادقها، فإنها عملت على تدجين المواطن وخضوعه وقبوله لفكرة الرعية على إنها الفهم (الثوري والتحرري) لفكرة المواطنة التي يجب أن تغلب حب الأرض ـ كوطن ـ ولفكرة الواجب تجاهه (المواطنة الصالحة)، على فكرة الحرية والكرامة والحقوق الشخصية للفرد، التي هي صورة المواطنة الحقيقية التي عملت على تكريسها دول المؤسسات التي قامت في أوروبا، منذ الثورة الفرنسية.
وفي رأيي المتواضع فإن ما شهدته البلاد العربية من انتفاضات شعبية ضد أنظمتها الفاسدة، منذ لحظة حرق البطل الكبير، محمد البوعزيزي، لنفسه في ساحة سيدي بوزيد، لم تكن سوى انتفاضة وعي ضد القهر السلطوي من أجل استعادة المواطن العربي لحق مواطنته من يد السلطة التي عاملت مواطنيها كرعايا تابعين وخانعين لمشيئتها ومصالح بقائها على كراسي الحكم والتحكم في مصائرهم، تلك الانتفاضات الباسلة التي طوحت بجثث حكام متعفنين لم يكونوا ينظرون للمواطن إلا كتابع خانع يتلقى إملاءاتهم ويطبق قوانين قمعهم ومصالحهم وبقاء السلطة في قبضاتهم وقبضات حاشياتهم وعوائلهم.
ولعل القارئ الكريم يوافقني، وبغض النظر عن الوضع الذي آلت إليه انتفاضات الشعوب العربية، منذ يوم نجاح ثورة الشعب التونسي على جلاده، بأن هذه الانتفاضات قد كرست وضعا وفهما ثقافيا جديدا لفكرة المواطنة وفكرة احترام السلطة لحرية وكرامة المواطن وحقوقه، وبدليل تأسيس دولة المؤسسات في كل من تونس ومصر، على الأقل، وبدء المواطن العربي الوعي بحقوقه السياسية والمدنية والإنسانية، وخروجه في المظاهرات المليونية، تعبيرا عن تمسكه بحقه في مواطنته وردعا للسلطة من أن تمس هذا الحق مرة أخرى وأن تعود به إلى عهد الرعية التي تساس بالهراوة والبندقية.

كاتب عراقي

سامي البدري