صناعة التطرف في سورية.. النظام استغل الجهاديين

جمعة, 2015-06-12 23:30

 

إنها "حرب أشباح"، وفي "الحرب توقّع كل شيء"، وثمة "منطق خاص بالحرب"، كلها جُمل يكررها الصحافي السوري دياب سرية في حديثه عن بلاده، التي سبق ثورتها بخمسِ سنوات حين دعا إلى إطلاق الحريات العامة فيها، فانتهى به الأمر في سجنِ صيدنايا العسكري في العام 2006 محكوماً بخمس سنوات في قضيّة ناشطي منتدى "أخوية" على الانترنت.

مصنع لإنتاج التطرّف

 

لم يَدُرْ في خَلدِ سرية أن بوابة الجحيم الدنيوي ستفتح عليه في صيدنايا، وأن هذا المعتقل العسكري سيتحول في نظرهِ إلى أكاديميةٍ ستعَرّفهُ على استراتيجيات النظام السوري المخابراتية، وفي مقدمتها لعبة "صناعة التطرف". إذ يقول في حديثه لـ"العربي الجديد": إن السجن أحد مصانع إنتاج التطرف لدى الأسد، إذ إن النظام يخلط داخل السجن أصحاب التجارب القتالية من متطرفين مع نزلاء لا علاقةَ لهم بالتطرف، ومنهم أطفال قصّر، ويسوقُ مثالاً، حينما زجَّ النظام بأطفال أعمارهم 15 سنة، في صيدنايا، ودفع بهم ليكونوا في مهاجع سجناء من المتطرفين الذين يصنّفهم النظام بـ"التكفيريين"، في حين كان بإمكانه أن يضعهم لوحدهم.

 

خلال جولة لمدير السجن، علي خير بيك، على النزلاء، سأل المعتقلين إن كان لديهم طلبٌ ما، فقال له أحد السجناء: هنالك أطفال قصّر زُجّ بهم مع المتطرفين، فلمَ لا يُعزلون عنهم؟ فأجابه مدير السجن بحزم: "اخرس.. مو إنت بتعلّمنا الشغل".

 

انطلاقاً من هذه القصة، يكمل سرية: "هؤلاء الأطفال بعد سنوات، أصبحوا متطرفين، والنقاشَ معهم يستحيل، لأنهم لا يتقبلون أي رأيٍّ مخالف لما يعتقدونهُ، فهم تشرّبوا التطرف فكراً، وطبّقوهُ في سورية بعدَ أن أطلق النظام سراحهم في أعقاب اندلاع الثورة في مارس/ آذار 2011 ".

 

أوراق اللعبة

 

يبدو الناشط السوري، والمعتقل السابق في سجن صيدنايا، عمر العبد الله، واثقاً بقوة من فرضيته أن النظام السوري كان يعد من فترة وقبل اندلاع الثورة السورية لورقة "الحرب على الإرهاب"، وربطهِا بالتيارات الإسلامية، لتسويق صورة زائفة أن معركته قائمة على مكافحة التطرف. دليل الناشط السوري على فرضيته السابقة يتمثل في أن النظام هو أول من فتحَ باب التطوع أمام الشباب السوري، للقتال ضمن جماعات في العراق، وذلك عبر فتوى لمفتي سورية السابق أحمد كفتارو، الذي دعا إلى وجوب الجهاد في العراق العام 2003، وغالبية من ذهب، شاركَ في الحرب على أساس قومي، وعشائري، وعاطفي، وديني، وحين عاد قسمٌ منهم، زُجَّ بهم في السجون السورية خلال الفترة الممتدة من العام 2005 وحتى العام 2007.

 

العبد الله، الذي سُجن في صيدنايا منذ العام 2006، وأطلق سراحه بعد أن أنهى محكوميته منتصف العام 2011، يؤكد أن عدد المعتقلين من التنظيمات الإسلامية ارتفع بعد العام 2006 من 400 معتقل إسلامي ليصل العدد حتى العام 2011، إلى ما يقارب الـ1500 سجين محسوب على التيارات الإسلامية، بمختلف تصنيفاتها، من الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والجماعات الجهادية.

 

ومن الأوراق التي لعب بها النظام بعد اندلاع الاحتجاجات السلمية في مارس 2011، بحسب العبد الله، إطلاق سراح سجناء الجماعات الجهادية المقاتلة التي اكتسبت خبرةً في حرب العراق 2003، قائلاً: "من الطبيعي أن يذهب أغلب عناصر هذه الجماعات إلى حمل السلاح والدخول في صدامٍ مع النظام، ولا أقول عن هذه العناصر إنها عميلة، لكن بعضها يقوم بخدمةِ أجندة النظام الذي يسعى إلى استغلال هذه الحالة، لتوظيفها في نطاق الحملة العالمية في (الحرب على الإرهاب)، كي يصور نفسهُ كضحية، وأن المتظاهرين ليسوا سلميين".

 

بنية أمنية عسكرية

 

وفي موازاةِ ذلك، يؤكد مروان شحادة، الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، أن بنية النظام السوري قائمة على المؤسسة العسكرية والأمنية، وتغليبهِ لهذا الطابع الأمني القمعي على سلوكه السياسي والاجتماعي والاقتصادي في معظم فترة حكمه، مكّنهُ من "اختراق بعض الجماعات المعارضة المسلحة الوطنية والإسلامية، ودلالة ذلك نجاحه في الوصول إلى العديد من القيادات الميدانية واغتيالها، وكذلك معرفته لخطط وتحركات تلك الجماعات، ناهيك عن قيام الجماعات المسلحة بإلقاء القبض على العديد من الأشخاص بتهمة التعاون مع الأمن السوري، وبث اعترافاتهم وإعدامهم عبر الأفلام المرئية".

 

وانطلاقاً من هذه الزاوية، يرى شحادة أن النظام السوري، في أول انطلاق الثورة، عمد عبر إعلامهِ، إلى لصق تهمة "الإرهاب" بمن يقود ويحرك هذه الثورة، قبل أن تتم عسكرتها بوقت طويل، وأخذ يردد أن "العصابات الإرهابية الأجنبية هي من تقوم بالحراك والمظاهرات في كافة المدن". وما يؤكد كلامه، على سبيل المثال، لا الحصر، تصريحات بثينة شعبان، مستشارة الأسد، حينما اتهمت اللاجئين الفلسطينيين بما سمّته بـ"مشروع الفتنة"، وكان ذلك في تاريخ 25 مارس 2011، إذ قالت في تصريحات متلفزة بثتها وكالات الأنباء ما نصه: "أتى أشخاص من مخيم الرمل للاجئين الفلسطينيين إلى قلب اللاذقية وكسروا المحال التجارية وبدأوا بمشروع الفتنة. خرج من ادعى أنه من المتظاهرين وقتل رجل أمن واثنين من المتظاهرين".

 

وبحسبِ الباحث المتخصص، فإن النظام حاول "إظهار نوع من الإصلاحات والتصالح مع الشعب السوري عبر إطلاق سراح معظم المعتقلين لديه، كي يخفف الضغط الشعبي عنه، ويدلل على أنه جاد في الإصلاحات السياسية، كما أطلق ما سمي بمشروع (الحوار الوطني) بعد أن شعر بخطورة الموقف"، فأفرجَ حينها عن زعيم جبهة النصرة الحالي أبو محمد الجولاني، وزعيم الجبهة الإسلامية محمد زهران علوش، وعبد القادر صالح الذي قتل في الثورة، ويرجح أيضاً أنه أطلق سراح منظر التيار الجهادي العالمي "أبو مصعب السوري"، وغير هؤلاء المئات من الأسماء غير المعروفة.

 

ويخلص شحادة إلى أن النظام وليومنا هذا ما زال يستخدم ذريعة أنه الوحيد القادر على مواجهة الجماعات التي صنّفت بـ"الإرهابية" من التنظيمات الإسلامية، وبناءً على ذلك، حاز على دعم المجتمع الدولي بعد أن غيّر الأخير موقفه من النظام لهذا السبب، "ناهيك عن الترويج الإيراني خلال المفاوضات النووية لأهمية بقاء النظام السوري الحليف الاستراتيجي له، لقدرته على ضبط الحدود"، ما يعني أنه الوحيد القادر على ضبط الحدود مع الكيان الصهيوني أيضاً.

 

كيماوي "بالوش" المزعوم

 

وفي العودةِ إلى دياب سرية، فإنه يشير إلى أن نديم بالوش، أحد سجناء صيدنايا، هو واحد ممّن عمل النظام السوري على توظيف تصرفاته للدلالةِ على تطرف الثورة، وتثبيت الادعاء بأن تنظيم القاعدة يحركها.

 

يصف سرية سلوك نديم بالوش بـ"شديد الغرابة والتناقض، فقد كان يدعي أنه ينتمي لتنظيم القاعدة، لكنه لم يقاتل يوماً وليس لديه أي خبرة بالسلاح". إذ اعتقل بالوش في تركيا بتهمةِ تشكيل خليةٍ تابعةٍ للقاعدة وتفجير "كنيس يهودي" في إسطنبول في العام 2001 بالاشتراك مع عناصر أخرى، ليسلّمَ إلى السلطات السورية في العام 2003، حيث اعترف بتشكيل خلية نائمة للقاعدة في مدينة اللاذقية، وزُجّ معه في المعتقل 3 أشخاص حكم عليهم بالسجن من 7 إلى 10 سنوات في محكمة أمن الدولة العليا، وهو ما يضع العديد من علامات الاستفهام عليه.

 

يكشف سرية أن بالوش نُقل من سجن "عدرا السياسي" إلى صيدنايا، وكان من قادة (العصيان) في صيدنايا عام 2007، إذ سمّى نفسه (أمير التسليح)، وكان من أشد المحرّضين على التمرّد وقتال النظام وعدم جواز التفاوض. وعندما قامت الدولة بتمشيط السجن قتلت الجميع إلا نديم وشخصين آخرين. وهذه تعد أهم علامات الاستفهام على الرجل الذي أُطلق في أواخر عام 2010، بدون أن ينتهي من قضاء محكوميته، (قضى سبع سنوات بدلاً من عشر). اللافت أنه بعد العصيان في صيدنايا حكم على قادة التمرد يومها بالإعدام بينما لم يحاكم بالوش مرة ثانية كما فعل النظام مع رفاقه".

 

يأتي سرية على مسيرة بالوش منذ بداية الثورة، والتي تثير الارتياب والظنون، ولا سيما أنه تحوّل إلى مادة للإعلام الحكومي السوري ووسائل الإعلام المؤيدة له، فصنّفَ حينها باعتباره أحد أبرز الإرهابيين الذين يستهدفون المدنيين ويحرّضون على القتل الطائفي.

في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2011، شكل بالوش، بالتعاون مع زملاء له في السجن، كتيبة مقاتلة أطلق عليها اسم "ريح الصرصر"، وقد ظهر على شاشات التلفزيون المؤيدة للنظام السوري وهو يجري تجارب بالأسلحة الكيميائية على الأرانب في مختبر، و"يهدّد بتسميم مياه نهر السن، شمال محافظة طرطوس على الساحل السوري، وقصف القرى العلوية في الساحل بالسلاح الكيميائي".

 

الجيش الحر حينها، فنّد رواية بالوش وشكك بهِا، وقال إنه وضع يدهُ على "مختبر ريح الصرصر"، والمواد التي ظهرت في فيديو بالوش هي مواد زراعية منتشرة مكتوب عليها باللغة التركية بهدف الإساءة إلى تركيا.

 

اعتقل الجيش الحر بالوش في العام 2012، وعُرض على محكمة تنظيمية بتهمة قتل النقيب المنشق عن جيش النظام السوري رياض الأحمد، ثم وضع في سجن تابع لجبهة النصرة، ليتم لاحقاً تحريرهُ من قبل "تنظيم الدولة ـ داعش"، وحتى اليوم، لا معلومات دقيقة حول مكان وجوده، وهنالك أقاويل بأنه مستمر في تهريب المسلحين لصالح "داعش" إلى داخل الأراضي السورية".

 

محمود قول آغاسي

 

يقول عبد الله السلطان، وكان يعمل في عام 2001 رئيساً لقسم إجازة قيادة المركبات في فرع المرور بحلب، إنه فوجئ باتصال آنذاك من قائد شرطة حلب العميد محمد خالد مصطفى، طالباً منه أن يسهّل معاملةَ شخصٍ سيأتي إليه من طرفهِ يحملُ كتاباً خطيّاً يتضمن صوراً له، لمنحهِ رخصة قيادة مركبة (سيارة)، دون أن يخضع لأي امتحانٍ فني، أو نظري، علماً أن هذه الرخصة تتطلّب استخراج أوراق من دوائر حكومية كحسن السيرة والسلوك، وعدم محكومية.

 

انتظر الرائد عبد الله السلطان الشخص الموصى عليه، وهو يتساءل بداخلهِ "كيف سيجيز معاملة تخالفُ القوانين والأنظمة النافذة؟"، وما هي إلا نصف ساعة، حتى فوجئ بزائرٍ غريب الهيئةِ، رجل طويل القامةِ، يلبسُ زيّاً أفغانياً، بلحيةٍ كثَّةٍ، تعتلي رأسهُ عِمَّة.

 

دخل الزائر الغريب على "السلطان"، وسلّمه ظرفاً مختوماً، ففتحه وقرأ مضمونه الذي نص على: (كتاب مُحال من شعبة المخابرات إلى وزير الداخلية بضرورة منح السيد محمود قولا أغاسي إجازة سوق خاصة وفورية بغض النظر عن كل الأوراق الثبوتية والفحوص الفنية والطبية)، وبناءً على ذلك، منح وزير الداخلية موافقته على كتاب أغاسي مذيّلة بتوقيعه.

 

جلس أغاسي، الرجل الملتحي الموصى عليه، ولم ينبس بكلمةٍ واحدةٍ، حتى أنجزت معاملته، فاستلمها وانصرف، ليتزعّم لاحقاً جماعة غرباء الشام، أحد أبرز الجماعات السلفية الجهادية في سورية، التي عملت على تأمين وتسفير المقاتلين السوريين والعرب عبر سورية إلى العراق بعد احتلاله في العام 2003.

يقول السلطان، لـ"العربي الجديد"، إن هذه الجماعة التي دعمها النظام، وسهّل عملها، وأشرف على نشاطاتها، تمت تصفيتها لاحقاً، عبر اعتقال وسجن عناصرها وناشطيها، واغتيال أبرز قيادييها، وعلى رأسهم محمود قولا أغاسي المعروف بـ"أبي القعقاع السوري"، مشيراً إلى أن انقلاب النظام على الجماعة، يأتي بعد انتهاء دورها نتيجة تفاهم أمني بين الاستخبارات السورية والأميركية عام 2005 لمحاربة عناصر القاعدة والجهاديين الذين أرهقوا في السنوات اللاحقة القوات الأميركية في العراق.

 

وكما شهد السلطان بداية "أبو القعقاع"، فقد كان شاهداً على نهايته، إذ يقول: تم اغتيال أغاسي أمام جامع الإيمان بحلب الجديدة في العام 2007 عندما كشف بعض عناصرهِ أمره، وحقيقة ارتباطاته، وعندما ألقي القبض على قاتليه، أعلنوا في قسم شرطة حلب الجديدة أنهم قتلوه لأنه خائن وعميل للنظام السوري وهو الذي وشى بأسماء عناصر تنظيم "غرباء الشام" الذي كان يرأسه، وعناوينهم للنظام، وهو ما يدعم من فرضية صناعة النظام السوري للتطرف حتى قبل الثورة بسنين طويلة.

 

تمهيد الأرض

 

لكن كيف دخلت القاعدة والسلفية الجهادية إلى سورية؟ يبدأ حسن أبو هنية، الخبير المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية، إجابته بأن تنظيم القاعدة، والسلفية الجهادية عموماً، لم تكن لها أرضية في الساحة السورية، وكانَ وجودها محدوداً وضعيفاً، فيما هيمن تيار التديّن الصوفي والشعبي على الحياة العامة في سورية، ذلك لأن نظام الأسد أحكمَ قبضته على البلاد، وأقصى التيارات الإسلامية المختلفة، فنشأت الجماعات السلفية السورية في الخارج، وأخذت تنشط بعيداً عن الوطن، في الشتات والمنافي.

 

ويستبعد أبو هنية، في حديثهِ لـ"العربي الجديد"، أن يكون النظام قد جنَّدَ مُخبرين داخل التنظيمات المتشددة، لكنهُ، أي الأسد، استثمرَ ووظّفَ تطرّف بعض الجماعات لصالحهِ، كما ساهمَ النظام بطرقٍ شتى في توليد فرع تنظيم القاعدة بسورية، بهدفِ إعادة إنتاج شرعيته أمام العالم في "الحرب على الإرهاب"، كما وساهم المناخ العام الذي صاغهُ النظام في دعم نشاط القاعدة، إذ ارتكز إعلام الأسد على بث الخوف من المتظاهرين السلميين بحجة أنهم "إرهابيين"، ولازم هذه التهمة بأنهم طائفيين، وذلك بهدف تصوير نفسه بأنه حامي الأقليات، وسعياً منه لدفع الصراع إلى مربع الطائفية.

 

يشير الخبير المتخصص إلى أن تحالفات النظام مع إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية في العراق، وقتالهم جنباً إلى جنب لقمع الحركة الاحتجاجية، أفرزت مشاعر "سنية سورية شبيهة بالحالةِ العراقية"، توقنُ أنها تتعرّضُ لهجمةٍ ضمن صراع طائفي قائم على أرض الواقع، الأمر الذي قادَ لولادةِ تنظيمات كجبهةِ النصرة وغيرها.

 

ومن التحليل إلى التاريخ، يعود "أبو هنية" إلى سنوات احتلال العراق العام 2003، عندما لجأ النظام السوري إلى سياسةٍ "غير معلنة"، تبنّى فيها تحويل سورية إلى مركز تجمع للمتطوعين الراغبين في الانضمام إلى المقاومة في العراق لمواجهة الاحتلال. وكانَ أبرز عرابي هذه الخطة الشيخ السلفي الحلبي محمود قولا أغاسي، الملقب بأبي القعقاع، الذي تحولت جماعته "غرباء الشام"، بعد الغزو الأميركي، إلى القطب الذي أمد قاعدة أبو مصعب الزرقاوي بجنودها السوريين.

 

وبعد نجاح جهود "أبو القعقاع"، كانت نسبة السوريين المشاركين في القتال بداية المقاومة، الأكبر بينَ المتطوعين الأجانب في العراق. ومع تحوّل الحسابات السورية، قرر النظام في دمشق الحد من تدفّق المتطوعين، ثم قتل أبو القعقاع برصاصةِ في رأسهِ، في ظروفٍ غامضةٍ، بحسب أبو هنية.

 

وعن هذه السياسة، يرى الخبير المتخصص في الجماعات الإسلامية، أن النظام عمدَ حينها إلى تحقيق عدة أهداف، منها التخلّص من السوريين ذوي النزعة السلفية والجهادية بالعراق، وإحباط رغبة جورج بوش الابن الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية، ومنها النظام السوري نفسه.

 

ويتابع أبو هنية أن الخطة السورية الرسمية المشار إليها سابقاً، أسهمت في إبقاء هياكل تنظيمية جهادية خاملة في المنطقة الشرقية من سورية، سرعانَ ما تحولت إلى تنظيمات إسلامية مقاتلة بعد سنةٍ من انطلاق الثورة السورية، علماً أن النظام، وقبل اندلاع الثورة السورية، كان يرى إمكانية رعاية الاستخبارات للجهاد مجدداً، لتحقيق أهداف وغايات الأسد.

 

مصيدة الطليعة

 

تعد صناعة التطرف تقليداً سوريّاً، انتقل من الأب حافظ الأسد إلى الابن، إذ يتذكر قلّة من السوريين قصة محمد جاهد دندش، الذي لقّب نفسه بـ"أبي عبدالله الجسري"، وقام باختراق تنظيم الطليعة الإسلامية المقاتلة بداية الثمانينيات، مدعيّاً أنه تاجر من أنصار التنظيم، استطاع أن يُنشِئَ بعض القواعد للطليعة على الحدود التركية السورية، وهو المتنقل بتجارته بينَ بغداد، وإسطنبول، وعمّان.

 

أحكمَ دندش، خطته، وبات موضعَ ثقةٍ، وخلال فترة قصيرة أصبح من قادة الطليعة. وبحسب مذكرات المعارض السوري محمد فاروق الإمام المعنونة بـ"ياسمين آذار المخضّب بالدم"، فإن دندش "أقنعهم أن عنده مجموعة من المجاهدين شمال سورية، وأظهر لهم الرسائل التي يتلقاها منهم، ويطلبون منه الاتصال بمسؤولين من الطليعة ليحركوا العمليات القتالية التي ضعف شأنها في الفترة الأخيرة وخاصة بعد مجزرة حماة (فبراير/ شباط 1982)، وكان دندش يعلم أن مثل هذا المطلب تنتظره الطليعة بفارغ الصبر، وسوف تتفاعل معه دون أي حذر، ولا سيما أن صاحب هذا الاقتراح من أهل الحل والعقد عندهم".

 

ويشير الإمام في مذكراته إلى أن عدنان عقلة أقنع مساعديه بهذا الاقتراح، وبدأوا يستعدون لتنفيذه، فيما دندش يرسل التقرير تلو الآخر إلى الاستخبارات السورية، ويوهم قادة الطليعة بأنه يرسلها لأصحابه في شمال البلاد، حيث بدأت خلايا الطليعة تدخل سورية لتسقط الواحدة تلو الأخرى، إلى أن سقط عدنان عقلة نفسه بأيدي الاستخبارات السورية، وبعد ذلك غادر دندش، "أبو عبدالله الجسري"، من عمّان إلى دمشق، حيث استُقبل بحفاوة بالغة بعد أن سلّم قرابة 70 قيادياً من الطليعة، وتبيّن لاحقا أنه ضابط في الاستخبارات السورية.