ثقافة النفي

خميس, 2014-07-10 23:44

تقوم الحروب بدورتها كاملة ثم تعود إلى فلسطين. كلما أرادت الحرب أن تدور تدور على الشعب الفلسطيني كأنه خلق خصيصاً لكي يستقبل الحروب ويدفع كافة تبعاتها ونتائجها. ظلمٌ لا سابقَ ولا لاحقَ له. كأن الحروب لا منطق لها ولا أسباب ولا مسببات. هكذا تختار شعباً بعينه دون سائر العالمين. وإلا فكيف سنفهم هذه الحرب الجديدة على الفلسطينيين. كيف سنفهم ونفسّر رهاناتها السياسية.
بالعادة تلجأ الدول إلى الحروب بعد انسداد السبل السياسية امامها. الحرب امتدادٌ للسياسة كما يقال. حسنا، ما هي هذه السياسة التي قامت هذه الحرب امتداداً لها؟ ماذا طلب الاسرائيلي ورفضه المفاوض الفلسطيني حتى يمكن القول انها الحرب لكي يربح الاسرائيلي ما لم يستطع ان يكسبه بالسياسة؟ 
ما هي رهانات هذه الحرب ولماذا نشبت؟ ماذا يحاول الاسرائيلي أن يقول بها؟ إلى ماذا يرمي؟ في السابق قامت حروب الكيان الصهيوني ضد العرب لكي تسكت مشروعاً تنموياً أو وحدة تخشاها أو دولة صاعدة أو مقاومة ناشئة أو شعباً منتفضاً. كان للحروب هدف تسعى إليه. لكن هذه المرّة كيف لهذا العدو ان يبرر حربه؟ بأنها ردّ على خطف وقتل ثلاثة مستوطنين اسرائيليين؟ الدولة عادة، إذا كانت تعتبر نفسها كذلك، لا تردّ ولا تثأر، بل تنشر قضاءها وشرطتها لكي تحقق بالجريمة ولكي تكتشف منفذيها وتحيلهم إلى محكمة تقول القانون بشأن ما ارتكبت أيديهم. 
الدولة لا تثأر وخصوصاً عندما يكون المجرم مجهولاً. فالجريمة، إذا كانت كذلك، لم يتبيّن بعدُ من قام بها. والدولة أيضاً لا تعاقب بالجملة لا شعباً ولا عائلة ولا حياً ولا شارعاً ولا زاروباً ولا قطاعاً. الدولة تفتش عبر القضاء على المجرم الذي خطط أو نفذ او شارك بالجريمة، هذا على فرض أن مقاومة شعب للاحتلال جريمة. الدولة، حتى اليهودية منها، لا تبقى دولة عندما تترك الجماعات تعلوها وتأخذ ثأرها من جماعة اخرى. الدولة لا تبقى دولة عندما تقوم قواها الأمنية المولجة بحفظ الأمن بارتكاب الجرائم العنصرية. عندها تصير الدولة جماعة، لا بل تصبح جماعة من الجماعات مثل غيرها.
نحن إذن إزاء ثقافة نفي، حرب لا علاقة للجريمة بها ولا لخطف المستوطنين ولا لسبب آخر غير معروف بعد. نحن بقلب حرب لا أهداف لها بعدُ. وبانتظار معرفة بواطن الأسرار نحن إزاء شعب يدفع ثمن ما لا يعرف، أو ما لا يُعلن، أو بكل بساطة يدفع ثمن ثقافة عنصرية بدائية. ربما لم يعد الصهيوني يتحمل العربي أيا كان هذا العربي، يريده ربما أن يرحل عنه بكل هدوء. الصهيوني وصل ربما إلى نتيجة مفادها أنه يريد ان يعيش وحده. هو يريد أن يكون مرتاحاً ببلد»ه.« والفلسطيني المسكين لم يعرف بعدُ انه يزعج اليهودي البولوني في بلد»ه.« 
على الفلسطيني أن يفهم أخيراً أنه مزعج. ولهذا هو يقتل. ولهذا هو المقتول دائماً. يزعج لأنه هنا فقط؟ لأنه يعيش فقط، حتى تحت الذل والاحتلال والقهر والقمع والتقطيع والتوصيل والهجرة والشتات والعودة المأمولة. مسكين الفلسطيني، مسكين العربي، عندما يصير مشكلة للعالم «المتحضر» فقط لأنه موجود. لم يعد الفلسطيني، العربي، يملك ورقة يتنازل عنها. وحده الوجود هي ورقته الأخيرة. 
أرادوا نصف أرض فلسطين فأخذوا. أرادوا النصف الآخر فنالوا ما تمنوا. أرادوا نصف أرض جيران فلسطين فأخذوا. أرادوا ما في باطن النصف الآخر لجيران جيران فلسطين فأخذوا. وها هم اليوم يتمنون الأرض نظيفة منا. ثقافة العنصرية بأبهى معانيها. لا يريده موجوداً. وتدور الحرب ثم تعود إلينا كأننا الضحية المثلى لها. بسبب ثرواتنا يقول أحدهم. ثروتنا لعنتنا. بسبب موقعنا الجيو- سياسي يقول الآخر. موقعنا نقمتنا ايضاً. وجودنا هو السبب على ما أظن. علينا أن نختفي لكي نهرب من هذه الحرب- اللعنة. أو أن نغيّر من طريقة تعاطينا مع آلهة الحروب.
هذا وفيما كان النفط يتدفق من كل مكان بينهم، وينبعث الغاز، كانوا هم يتساءلون؟ من نحن؟ عرب نحن أم مشارقة؟ شيعة أم سنّة؟ مسيحيون أم مسلمون؟ أمازيغ أم بربر؟ بربر أم قحطانيون؟ غساسنة أم مناذرة؟ 
في ذات الوقت كان الإسرائيلي يسقي العربي نفطه ويشعله من الداخل. لم يخطر ببال الإسرائيلي أن يسأل نفسه، مثلهم، من هو؟ من أين أتى؟ ومن هو بالضبط؟ أشعل النار بباطن الشاب اليافع الفلسطيني بدون اسئلة كثيرة. فهم فقط أن النفط يمكن أن يشتعل بسرعة فأشعله. النفط طاقة أم وقود؟ تلك هي المسألة. 
تتألف الصين من أكثر من خمسين قومية وإتنية ودين تؤلف دولة صاعدة واحدة موحدة تهدد القوى العظمى بوجودها من دون ان يسأل الصينيون أنفسهم من نحن. ربما بدأوا من سؤال آخر، من ثقافة اخرى. سألوا أنفسهم ماذا نريد ربما؟ أو ماذا نريد أن نكون في هذا العالم الثقيل المتعب بمن فيه.
مهمة جداً ثقافة الهوية ومن نحن، ومهم جداً ان تعرف الشعوب هويتها لكن من المهم كذلك أن تعرف عدوّها، أن تعرف ليس فقط هويته بل ما يريد من الكون ومنه تحديداً. من المهم خصوصاً أن نعرف أيضاً إلى أين نسير وفي أي طريق وبرفقة من كذلك. يبدو أن الأمم التي لا تعرف ما تريد يصير جسدها عبئاً على الآخرين، يصير وجودها ذاته ثقلاً لا يحتمل. تصير عرضة لثقافة النفي. 
كاتبة لبنانية

عناية جابر