وقبل أن تحتفل ألمانيا؟!

اثنين, 2015-10-12 08:18

بين عامي 1815ـ 1866 تشكل ما يدعى بالكونفدرالية الألمانية، ومن ثم الأمبراطورية الألمانية (1871ـ 1933) أعقبها حكم هتلر وتأسيس ألمانيا النازية (1933ـ 1945) التي انتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية وخسارة ألمانيا أمام الحلفاء وتدمير معظم بنيتها التحتية، ونتج عن ذلك تقسيم ألمانيا بين المعسكرين الغربي والشيوعي ببروز ألمانيا الغربية الليبرالية وألمانيا الشرقية الشيوعية الاشتراكية.. لتتوحد الألمانيتين من جديد سنة 1990.

 ولن نخوض في تاريخ دخول ألمانيا عصر الثورة الصناعية المؤسسة على ثورات أخرى علمية وفكرية وثقافية.. فأين نحن ـ يا ترى ـ من كل هذا الزخم الممتد على مدى قرون، ومتى تشكلت " كونفدراليتنا أو امبراطوريتنا الموريتانية " وهل خضنا حربين عالميتين استخدمنا فيهما المقاتلات والدبابات والراجمات والردارات، وعبرنا خلالهما الحدود الأوربية وضممنا النمسا وتشيكسلوفاكيا وبولندا، وغزونا الاتحاد السوفيتي والدانمارك والنرويج، وهل مررنا قبل ذلك بحرب الثلاثين وب " الرايخ الأول " في القرن العاشر، و " الرايخ الثالث " في القرن العشرين ( عشرة قرون من التوسع والتقهقر والهزائم والانتصارات والتجارب والتشكل والتأسيس )؟!

لم نكن بحاجة لهذا السرد التاريخي الذي لم نأت على واحد بالمليون من أحداثه وتحولاته، لولا أن البعض يتعمد القفز على واقعنا ومن نحن، نعم يتعمد لأن لديه ما يقارننا به غير ألمانيا. و لأنه أختار مقارنتنا من حيث خدمة الكهرباء بأٌقوى اقتصاد وإنتاج على المستوى الأوربي، متهكما بأننا نشترك معه في تصدير الكهرباء للبلدان المجاورة، فسنعطيه معلومات عن حالة الطاقة الكهربائية في البلدان المجاورة التي نصدر الكهرباء لأحدها ( مالي )، ونستعد لتصدير الكهرباء للثاني ( السنغال )، وقد كان عليه مقارنتنا بهذه البلدان بحكم التاريخ والجغرافيا ومستوى الرقي البشري والتطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، بدل تكلف عناء عبور آلاف الأميال عبر الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا والأبيض المتوسط لمقارنتنا بألمانيا..!   

ففي جمهورية مالي، وباختصار، كانت الدولة تعتمد في توفير الكهرباء أساسا على شركة ليبية إسمها ( MALIBYA ( فتعطل تمويل تلك الشركة بعد رحيل القذافي، وعاد الماليون إلى قصتهم القديمة مع الكهرباء، أما في السنغال فالكل يعرف اليوم ما تعانيه كبريات المدن، وخاصة العاصمة داكار، من اضطراب في التموين بالكهرباء مبرمج ومسلم به، وساعات من النهار هي حصة كل حي من الكهرباء، وذلك بسبب العجز في إنتاج الكهرباء، ومع العجز في الإنتاج لا معنى للحديث عن التوزيع.. ووزراء هذين البلدين هما من ترددا علينا مرارا لتزويد بلديهما بالكهرباء، وتوقيع ابروتوكولات التعاون في هذا المجال، ولو لم يكونا واثقين من قدرتنا على ذلك لتركانا نحن نمارس " دعايتنا " التي يصر البعض على أنها مجرد دعاية، إذ لا يربح هذان البلدان شيئا من مسايرتنا في دعايتنا، وليست الدعاية من مصادر الطاقة المعروفة حتى يتردد مسؤولوهما على بلد آخر لتزويدهما ب " الطاقة الدعائية.." !

قلت مرة لأحد فنيي الشركة الوطنية للكهرباء: البعض يقول إنكم ستصدرون الكهرباء لدول الجوار ومع ذلك تشهد العاصمة وبقية المدن انقطاعات متكررة للكهرباء.. فقال لي : موريتانيا مشكلتها ليست في توفر الكهرباء، فلديها ضعفي حاجتها منه، لكن لديها مشكلة في شبكة التوزيع المتقادمة التي لم تكن لديها مشكلة في توزيع ما كان متوفرا من الإنتاج، لكنها لم تعد قادرة على تحمل وتوزيع الطاقة الكبيرة الجديدة، وقال لي خذ هذا المثال: اترك المصابيح الموجودة في بيتك، وكذلك التلفزيون والثلاجة والمكيف على حالهم وقم باشتراك كهربائي بطاقة أقوى من اشتراكك القديم وأنظر ماذا سيحدث.. ستنفجر أو تحترق كل أجهزتك بفعل قوة الطاقة الجديدة! وهذا هو بالضبط ما يحدث اليوم، بالإضافة إلى عدم وجود محطة تحكم في توزيع الكهرباء يتم الآن الإعداد لإنشائها، مما سيمكن من العثور على مكان الخلل في الشبكة بشكل تلقائي وسريع بدل البحث العشوائي من طرف الفرق عن مكان الخلل، وأخذ الكثير من الوقت والجهد في البحث عنه في أكثر من محول وتوصلة..

الواقعيون والمطلعون يدركون هذه الحقائق ويتفهمونها، لأن لا خلفية أخرى تُعصب أعينهم وتصم آذانهم عنها، أوتطلق ألسنتهم وأقلامهم في توظيفها في معاركهم السياسية.. ويدركون أن خمس محطات كهربائية تم إنشاؤها مؤخرا، ما بين حرارية وشمسية وهوائية، لا تنتج الدقيق ولا الشكولاته، وإنما تنتج الكهرباء وبما يزيد على 200 ميكاوات في العاصمة وحدها، مُشَكلة ضعفي ما كان متوفرا من الطاقة على عموم التراب الوطني قبل إنشائها .. وقد يتساءل البعض لماذا لا يتم تحديث الشبكة قبل أنتاج الكهرباء وهو سؤال وارد، لكن الفنيين والخبراء رأوا أن زيادة إنتاج الكهرباء أولى وأكثر إلحاحا من تحديث شبكة يمكن التغلب على مشاكلها بمحطة للتحكم في أعطابها، وستكون أقل تكلفة وأسهل تنفيذا من تحديث الشبكة نفسها.

عندما يحتفل شخص مصاب بالصرع بمرور عشر سنوات على عدم إصابته بنوبة صرع، فمعنى ذلك أنه كان يصاب بنوبات صرع متقاربة.. وعندما يحتفل شعب بمرور خمسين أو مائة سنة على استقلاله، فمعنى ذلك أنه كان تحت الاستعمار قبل تلك السنين، ونفس الشيء، عندما تحتفل ألمانيا بمرور 31 عاما على عدم انقطاع الكهرباء دقيقة واحدة، فمعنى ذلك أنها مرت قبل ذلك بانقطاعات الكهرباء مثلنا، قبل أن تتغلب على تلك المشكلة.. وذلك حلمنا الذي نرى كل الدلائل على قرب تحقيقه، وليس " حلم " بعضنا الذي لا يرجو له  التحقق لكي يظل قادرا على توظيفه..! وليس صحيحا أن سير العمل يتوقف في مستشفياتنا بسبب انقطاع الكهرباء، لأن كافة المستشفيات الكبيرة التي تجرى بها العمليات الجراحية وإجراءات العناية المركزة مزودة بمولدات كهربائية احتياطية، وحتى المستوصفات والمراكز الصحية التي تمت توسعتها أدرجت المولدات الكهربائية في برنامج تجهيزها بالأسرة والمعدات الأخرى..!

لا تحتفل ألمانيا فقط يا هذا، ويا هؤلاء، بمرور 31 عاما على عدم انقطاع الكهرباء فحسب، بل تحتفل أيضا ومن ورائها أوربا كلها بمرور ستة قرون على تغلبها على وباء الطاعون أو " الموت العظيم " الذي قضى على ثلث سكان القارة في القرن الرابع عشر، عندما كانت الأحوال الاقتصادية والعلمية والثقافية لتلك الشعوب شبيهة بأحوال شعوب العالم الثالث اليوم.. وقضى وباء الجدري على الملايين من هذه الشعوب، ولم يسلم منه حتى ملوكها، فقد أهلك الجدري الملكة ماري الثانية من انجلترا، وبيتر الثاني من روسيا، والملك ألويس الخامس عشر من فرنسا، والملك جوزيف الأول من ألمانيا.. وإلى غاية القرن العشرين قضى الجدري على 500 مليون شخص، فلا يظنن أحد إذن أن العالم المتطور لم يمر بنفس ظروفنا مجبرة له ظروفه على المرور بما تجبرنا ظروفنا على المرور به من عثرات، وإنه ـ لعمري ـ خبر مطمئن على حالنا ، أن تحتفل ألمانيا بتاريخها وعلمائها وعباقرتها وتطورها بمرور 31 عاما فقط على عدم انقطاع الكهرباء عنها، فقد كنا نعتقد أنها احتفلت بذلك قبل 331 عاما وليس 31..

نعم، سنحتفل باليوم الذي لا تنقطع عنا فيه الكهرباء لأننا اتخذنا التدابير لذلك، كالتدابير التي شرعنا في اتخاذها لتحقيق أحلام وطموحات في مجالات أخرى، ومنها تلك التي دأب مقارننا بألمانيا على الحديث عنها، والسخرية منها..! فالمهم أن تتوفر الإرادة وتتبلور الفكرة ويبدأ العمل، ومثلنا يقول " أل أنكبظ ابراصُ أوف " وتغطية الطلب من الكهرباء وتصديره إرادة وفكرة وعمل وقد بدأ، وربط 19 مقاطعة وعشرات المراكز الإدارية والقرى والتجمعات بالطرق المعبدة، إرادة وفكرة وعمل وقد بدأ وبشكل متزامن خلال ست سنوات فقط لا عشرا ولا عشرين..

وتطوير وتدريب وتسليح وتجهيز الجيش فكرة وإرادة وعمل وقد بدأ، بل تحقق وها هو اليوم يحمى الحدود ويؤمن البلاد في منطقة مضطربة، بل أكثر من ذلك يتم اليوم إرسال فرق منه خارج الحدود للمشاركة في حفظ السلم في إفريقيا، ويتم تكريم تلك الفرق من قبل الأمم المتحدة على حسن أدائها وانضباطها، ويطلب آخرون مساعدته والاستفادة من قدراته وخبراته..

والحالة المدنية المضبوطة التي لا أمن ولا هوية بدونها، هي فكرة وإرادة وعمل، وقد بدأ ذلك العمل وأشرف على الانتهاء، حقق الغرض منه في القضاء على فوضى وجرائم العبث بالوثائق الوطنية وبيعها للأجانب بثمن بخس تحت الأشجار وعلى قارعة الطريق، بطاقات تعريف وجنسيات وجوازات..! وأصبحت إدارات ومصالح الدولة تستعين اليوم بهذا البرنامج الرقمي في الكثير من الجوانب الأمنية وفي البحوث والتحقيقات والمعاملات كان آخرها تنظيم عملية الحج..

ومشروعي آفطوط الشرقي وأظهر هما فكرة وإرادة وعمل وقد بدآ منذ سنوات، انتهت الأشغال في الجزء الأهم من أحدهما ولم يبق سوى توزيع مياهه عبر الأنابيب، والأشغال جارية في الجزء الأهم من الآخر، وسيوفران حلا نهائيا لمشكل ظل قائما، وجاهزة فكرة وإرادة سقي النصف الشمالي لموريتانيا انطلاقا من النهر، وكما رأت الأفكار الأخرى النور وبدأ تنفيذها، سيرى هذا المشروع هو الآخر النور ويبدأ تنفيذه.

والمطار الدولي الجديد وطريقة تمويله وإنجازه فكرة عجز الآخرون عن " إبداعها " وافتقروا للإرادة في اقتحامها، وقد بدأ تنفيذه، ومن يتهكم عليه، أو يسخر منه، فما عليه سوى الذهاب لرؤيته لأنه لا يوجد على سطح القمر وإنما على بعد 25 كيلومتر شمال غرب نواكشوط، وقد تغنيه رؤيته من الخارج عن دخوله والتجول في قاعاته وطوابقه الفسيحة، وإذا كان غير مستعجل فليصبر إلى حين تدشينه بعد أسابع، فربما فُتح أمام الجمهور للتفرج عليه لأيام قبل بداية تشغيله..

ومشروع سكر موريتانيا فكرة وإرادة وعمل، بدأ طبقا لما تتطلبه المشروعات الاستراتيجية من وقت للتخطيط والإعداد وتعبئة الموارد، وهو الآن في طور إعداد وإكثار الشتلات اللازمة لزراعة عشرة آلاف هكتار من قصب السكر، ولم يأخذ من الوقت إلا ما يأخذه أمثاله من المشروعات، سيبدأ إنتاجه بعد سنتين أو ثلاث أو أربع؟ ذلك لا يهم، إنما المهم أن قطاره انطلق واجتاز محطات، ومن سار على الدرب وصل..

هذه هي المشروعات الكبرى التي ظل مقارننا بألمانيا يسخر منها ويتهكم عليها لأسباب وخلفيات ليس وحده من يعلمها كناشط سياسي في المجتمع المدني، أو ناشط مدني في المجتمع السياسي.. وقد تكلمنا عنها تاركين للواقع الحديث عن إنجازات ومشروعات كثيرة أخرى موازية لأهميتها في مناح أمنية وسيادية، وسياسات وبرامج اجتماعية، وبنى تحتية صحية وتعليمية وزراعية ومينائية وريفية، وإصلاحات اقتصادية وقانونية وحقوقية وغير ذلك كثير.. ونحن لا نخاف على مقارننا بألمانيا وأمثاله من " أستحفي " أو الفراغ بعد انتهاء هذه المشروعات، لأنه في الطريق مشروعات أخرى جاهزة فكرتها وحاصلة الإرادة لتحقيقها وستنطلق، وبإمكانهم الاستمرار في استغلال الفترة ما بين بدء تنفيذها وإنجازها في التهكم والسخرية منها، وممارسة هواية العبث بذر الرماد في العيون المفتوحة التي ترى ما لا حاجة بها لأن تسمع أو تقرأ عنه!

لكن يبدو أننا قد ذهبنا بعيدا، فسبب " غيرة " صاحبنا، وما يعجبه في ألمانيا ليس احتفالها بمرور 31 عاما على عدم انقطاع الكهرباء، وإنما جفاء الألمان لرئيسهم أو حاكمهم، فذلك هو " السر إل اتجيبو الغفلة " أو الفكرة التي يُلجأ للكثير من المقدمات للوصول إليها أو إيصالها، متجاهلا أن الألمان مثلنا منقسمون، بعضهم يجافي الرئيس أو الحاكم لأسبابه، وبعضهم الآخر يدعمه، يسير في مسيراته وينشط في حملاته ويصفق لخطاباته ويدلي له بأصواته.. لكن أين المشكلة؟ ليستخدم كل حقه في جفاء النظام أو الرئيس كخيار شخصي هو حر فيه، وليأخذ معه في ذلك المسار من استطاع من أهل بيته أو من لديه عليه سلطة أو من تجب عليه نفقته.. لكن من دون أن يستبيح ما لا يحق له من الوصاية على خيارات وقناعات الآخرين، وليعلم أنه لا يمتلك " تقنية " غسيل أو تفريغ الأدمغة وحشوها بما يريده، وليرحم نفسه ويشفق عليها كونه لا يستطيع حمل كوكب الأرض على رأسه، ولا طي و" كبس " مراحل التاريخ وتحولات الشعوب..!

محمدو ولد البخاري عابدين