من هم “العرب” الذين تمجّدهم الدعاية الإعلامية للمشاريع القطْرية

ثلاثاء, 2015-11-03 06:20

ـ1ـ

هنالك صراع “عربي” مع هذه القوة الإقليمية أو تلك وهنالك موفد عربي إلى جانب الموفد الدولي … والقائمة طويلة. من هم “العرب” الذين يتحدث عنهم الإعلام “العربي” المهيمن بهذه الوثوقية الضمنية المدهشة ؟ “البداهات” الإعلامية رغم تضخّمها اللفظي “فيها نظر” كما يقول القدماء. أي أنها غالبا ما تخفي إراديا أو لا إراديا المستويات المعقدة أو الملتبسة أو الـ”لابديهية” التي ترتكز عليها ضمنا. هل يتمتّعُ، في الوقت الراهن، الحديثُ عن “العرب” ككتلة سياسية مفترضة بوجاهة ما بمستوى أو آخر وعلى هذا الصعيد أو ذاك؟ يفترضُ ذلك وجود معايير معلنة أو مضمرة هي التي تمنح هذه الوجاهة. يفترض الحديث عن “العرب” ككتلة سياسية حدًّا أدنى من المصالح المادية والمعنوية المشتركة والمحددة المعالم بشكل يحظى “عربيًا” بمستوى ما من الإجماع. والسياسة المتضاربة والمصالح الفئوية المتناقضة هي أكثر ما يفرق شعوريا ولا شعوريا “العرب”(و، استطرادا، أمازيغُهم وفراعنتهم وفينيقيوهم إلخ) إلى درجة أنها ظلتْ خلال نصف القرن المنصرم تخْلق عقباتٍ جدية تنعكس على تواصلهم وتجانسهم الثقافي والاجتماعي.

ـ2ـ

هل تكشف الصيغ الإعلامية السائدة أنه خلف التفكك السياسي البديهي هنالك لدى “العرب” إحساس ما بوجود “مصالح” ما مشتركة و”تحديات” ما واحدة أو مرتبطة” ؟  أية مصالح وأية تحديات؟ هل هي مصالح المشرق (أو المشارق) أم مصالح المغرب (أو المغارب)أم مصالح الفئات النافذة في هذه الدولة القطرية أو تلك ؟ هل يتعلق الأمر بمصالح وتحديات حقيقية أم بمصالح وتحديات وهمية تصدر عن وعي مزيف؟ التشرذم المؤسسي والقطري والتضارب والتناقض السياسي على المستوين “الإيديولوجي” والمصلحي يزيد تعقيد هذه الأسئلة لاسيما أن أي نظرة ولو خاطفة للسياسات العربية الرسمية تكفي لإثبات أن التوجهات القطْرية الحالية تخضع لمنطق يتضارب جذريا في أغلب الصعد مع منطق المصالح والتحديات العربية التي يمكن افتراض كونها مشتركة.

ـ3ـ

تصدر هذه الأسئلة عن مفارقة مركزية نختصر التعبير عنها بالتمثيل بواحد من تجلياتها العديدة. فمختلف الحيثيات السياسية والاقتصادية والأمنية الخاصة بوجود وبقاء ونفوذ “النخب” المهيمنة في أغلب إن لم يكن كل الدول القطْرية وبمصالحها وتحالفاتها البينية ومظلاتها الأجنبية تتناقض في مستويات معتبرة مع الحد الأدنى من العمل بمقتضى مصالح عربية مشتركة أو تحديات جامعة. بل لا يعسر إثبات أن ملابسات المصالح والتحالفات الدولية ومختلف العوامل الأخرى التي تساعد على بقاء تلك “النخب” سائدة تصب يوما بعد يوم ومن زوايا معينة في توسيع الفجوة بين الدول العربية كدول أولا وأحيانا بين الشعوب نفسها.

ـ4ـ

ولنا هنا أن نلاحظ أن الجبهات السياسية والعسكرية التي استدعتْ في الماضي لسبب أو آخر تنسيقا ما بين عدة دول عربية قد أضحت شيئا فشيئا المجال الأمثل الذي تكْشف فيه كلُّ دولة قطْرية معنية عن رغبتها في التعبير عن “سيادتها” و”استقلالها” عن الدول العربية الأخرى وعن قدرتها على الانخراط في تحالفات منفصلة عن جيرانها. ويمكن في نفس هذا السياق أن نسجل أن الحيطة والحذر الذين تواجه بهما أي دولة عربية مواطني الدول العربية الأخرى تتجاوزان بكثير ما تواجه به نفس الدولة كل جنسيات العالم الأخرى.  وهو ما خلق “تباعدا” موضوعيا بين الجيران وانعكس ثقافيا واجتماعيا على تواصل مواطني العالم العربي فيما بينهم وخلق حواجز مادية ونفسية تزداد بشكل مضطرد. وقد انضاف إلى ذلك أن شلل المؤسسات العربية المشتركة التي ظلت لنفس الأسباب السابقة مؤسسات شكلية أو معطلة في غالبها وأن الَبنْيَنَة القطرية لمؤسسات  كل دولة عربية بما فيها الوسائط الثقافية ـ التي يُفترض فيها التعالي على القطرية على الأقل بحكم اللغة ـ ساهمتا في منح الانتماء القطْري فاعلية براغماتية انكفائية تصبح معها الإحالة إلى المُشترك الثقافي أقربَ إلى العادة الإنشائية الخالية من أي محتوى فعلي. بل وعمّقتْ الشعور بأن الانتماء القطْري مهما كان هش الأساس أو قريب العهد يتمتع  بمشروعية ملموسة تخول الإفصاح عنه أكثر. وهو طبعا ما تضافر تلقائيا مع تباين الظروف الاقتصادية والمستويات الاجتماعية بين مختلف الدول العربية. وغذاه التوظيف السياسي كما غذى ويغذي المشاعر الإقليمية والطائفية المذهبية والعرقية المتضافرة معه.

د. محمد بدي ابنو

 مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

[email protected]