د. محمد بدي ابنو: قبضة السلطة: من التحديث إلى الهويات التقليدية

أحد, 2016-01-03 01:59

“الشعوب لديها دائما أبطال تحرِص أنْ تضفي عليهم من عندها العظمة. هذا وليس غيرُه هو الجذر الذي ينبتُ منه الطاغية. فهو حين يظهر في البداية يعتبره الشعبُ البطلَ الذي يحميه”.  فلاطون

 

 

ـ1ـ

النّمط العامّ الّذي اتّبعته الدّول العربيّة شبه الستالينية هو بلا شكّ نموذج تلفيقي يستلهم، عن وعي أو بدونه، نموذجين مرتبطين تاريخيا وأيديولوجيا. أولهما نموذج الدولة الوطنية (كما يُترجَم مصطلح nation state مغاربيًا، أو الدولة القومية كما يُترجم مشرقيًا) الممركَزَة الّذي وُلِد في أوروبّا الغربيّة في القرن التّاسع عشر، في نسخته الفرنسية اليعاقبية. أما النموذج الثاني والأكثر جلاء فهو نموذج الدولة السوفيتية السْتالينيّة. وقد ساعدتْ على ذلك عدة عوامل أحدها الاعتقاد السّائد حينها بأنّ المركزيّة المطلقة الّتي تَجمع بين اليعاقبيّة الفرنسيّة والستالينيّة السّوفياتيّة هي السّبيل الوحيد لحرق المراحل وتجاوز التّأخّر التّقنيّ الصّناعيّ. وهي عقيدة موروثة مباشرة عن الدّول القوميّة الأوروبيّة في القرن التّاسع عشر كما هي موروثة عن الامبراطوريّة السّوفياتيّة وعن الأيديولوجيا والثقافة السياسية المؤسِّستين لها. فقد اعتمدتْ فرنسا النّابليونيّة نمطا بالغ المركزيّة وشبه بوليسيّ من أجل تجاوز التأخّر التّقنيّ الصّناعيّ تجاه بريطانيا الّتي كانت عرفتْ انطلاق الثّورة الصّناعيّة خمسين سنة قبل انقلاب نابليون على الثورة الفرنسية. وهو تماما ما استلهمَتْه بشكل متغوّل وبالغ التّطرّف الدّولة الستالينيّة في الاتّحاد السّوفياتيّ.

 

ـ2ـ

ولكن حين نقارن الدول العربية شبه الستالينية مع الدول “الاشتراكية” الأخرى سنلاحظ أنّ الأولى أنظمة وُلدتْ متأخّرة بالنسبة للأنظمة الستالينيّة الّتي تَشَكَّل أغلبُها غداة الحرب العالميّة الثّانيّة. أما الأنظمة العربيّة الّتي سُمّيت اشتراكيّة فقد ظهرتْ في نهاية السّتينيّات وبداية السّبعينيّات أي في أوج المدّ العالمثالثي. صحيح أن المرتكزات الأيديولوجية التي انبنتْ عليها أنظمة هذه الدول تعود في بعضها بشكل مباشر إلى مناخ الثمانينات والأربعينات من القرن الماضي إلا إنّ السياقات التعبوية والدّعائيّة الّتي سترتكز عليها الأنظمة العربية شبه الستالينية، أيا تكن مرتكزاتها الأيديولوجية والحزبية المعلُنة، هي سياقات تشكلتْ أوجيا في الستينات. فقد أصبح حينها خلقُ جهاز دولتيّ مركزيّ يُفتَرض أنه قادر على تجاوز التّأخّر التّقنيّ الصّناعيّ والعسكري مبرّرا كافيّا لتبنِّي النّموذج الأمنيّ الستالينيّ بطريقة يتمّ تعميدها شعبيا ـ خصوصا إذ ذاك ـ باعتبارها أنجع أداة لمواجهة كلّ اختراق أمنيّ أو تصنيعيّ من الدّول الغربيّة.

 

ـ3ـ

غير أنّ هذا الطّابع الأمنيّ الأوتوقراطي المُرَكّز سَيسْمح، في اتجاه أولي، بمستوى ما من الدّمج الثّقافيّ الاجتماعيّ على الطّريقتين اليعاقبيّة والستالينيّة. وسيدفعُ في الإتّجاه المقابل إلى توظيف البنيات القديمة أمنيّا من حيث رفضُه الجذري لكلّ البنيات السّياسيّة الحديثة كبنيات منافسة ومتَّهَمة تبعا لذلك بشكل تلقائي. وهو ما سيجعل هذه الأنظمة من جهة تعمل على عسْكرة المجتمع واستتْباعه عسكريا ومن جهة ثانية تَعكفُ على إنشاء أجهزة كليانية دمجيّة تستفزّ تلقائيّا، كما هو الأمر في دول عديدة أخرى، المنظومات التّقليديّة السّابقة عليها كمنظومات معياريّة. وسيجعلها، من جهة ثالثة، تُقوّي هذه المنظومات والكيانات التّقليديّة من حيث اعتمادها التّدريجيّ عليها أمنيّا ( مَنْحُ امتيازات لبعضها في مواجهة البعض الآخر وتقريب أو خلْق قيادات لمواجهة قيادات تقليديّة أخرى، واعتماد الولاء الأمنيّ كمعيار محوري وتكوين أجهزة أمنيّة مرتبطة جزئيّا أو كلّيّا بولاءات تقيلديّة طائفيّة أو قبليّة أو عرقيّة أو جهويّة بحسب الدّول، إلخ.)

 

ـ4ـ

هذا العنصر الأخير قد بدا لمختلف الأنظمة العربية شبه الستالينية كعنصر بالغ النّجاعة بشكل مزدوج : بالغ النّجاعة في مواجهة أيّ اختراق أجنبيّ، وبالغ النّجاعة في مواجهة أي منافس سياسيّ محلّيّ بما في ذلك المنظومات والكيانات التّقليديّة الّتي لم تقبل طواعيّة بالانخراط في المنظومة المعياريّة الرّسميّة المهيمنة. وهو ما يفسّر أنّ موجة سقوط الأنظمة الستالينيّة في أواخر الثّمانينيّات لم تشمل تلقائيا الأنظمة العربيّة المحسوبة على الستالينيّة. فبدتْ ـ ظاهريا ـ أنظمة بالغة الصّلابة بالمقارنة مع الأنظمة المماثلة في العالم. إلاّ أنّ هذه النّقطة بالذّات هي الّتي ستقوّض المشروعيّة الوطنيّة لهذه الأنظمة شبه الستالينية حيث ستعتمد الأخيرة تدريجيّا على الجانب الأمنيّ والامتيازيّ ليصبح الاستقلالُ النّسبيّ لقرارها عن الخارج محض مرادف لتغوّل أوتوقراطيّة القرار وفرديته.

 

ـ5ـ

مثَّلتْ هذه الأتوقراطية المتغولة انتكاسةً لكلِّ طموح محلي للحصول على مستوى ما من مستويات السيّادة الشّعبيّة. لم يكن مفاجئا إذا أن يؤول الوضع إلى نوع من الشّعور بالغربة لدى شرائح واسعة من الشّعوب الّتي تحكمها هذه الأنظمة، أي إلى فقدان معتبر لأهمّ مستويات التّضامن الوطنيّ مع الأنظمة الّتي تحكمها أيّا تكون مواقفها وأيديولوجيّاتها السّياسيّة. مع ذلك، فهذا لم يعنِ أنّ هذه الأنظمة قد تحوّلت تماما إلى أنظمة طائفيّة أو قبليّة أو عرقية حتّى وإن وَظَّـَّـفتْ هذه الانتماءات أمنيّا. بعبارة أخرى فإنَّ المطابقة في هذه الدّول بين قوّة الدّولة وقوّة النّظام بل والمطابقة بين قوّة النّظام وقوّة الحاكم، والتّوظيف الأمنيّ للانتماءات التّقليديّة آلت إلى أن تكون الانتماءات التّقليديّة لشخص الحاكم نفسه ـ انتماؤه الطّائفيّ أو القبليّ أو الجهويّ أو العرقيّ ـ أحد مرتكزات معادلة القوى السّلطويّة دون أن يعني ذلك طبعا أنّ هذه المعادلة يمكن أن تُختزل في هذا العامل.

 

ـ6ـ

إلاّ أنّ التّرهّل التّدريجيّ لدولة المؤسّسات في صالح دولة الأفراد بل دولة الفرد قد مَنحَ شيئا فشيئا الانتماءات التّقليديّة مكانةً منافسة للمؤسّسات الدَّوْلَتِيَّة الحديثة إن لم تكن أصبحتْ بديلا عنها في بعض المستويات. وهو ما حوّل تدريجيّا سلطةَ الحزب ومؤسّساته أو سلطة الإيديولوجيا ومؤسّساتها إلى سلطة العائلة والقبيلة والطّائفة إلى آخره. وكما يحدث عادة فقد أنجبتْ هذه الأنظمة معارضاتٍ تشتركُ معها في البَنْيَنَة الذّهنيّة نفسها بما في ذلك ما يتعلق بتوظّيف الانتماءات التّقليديّة القبَليّة والطّائفيّة والعرقيّة والجهويّة في مواجهة النّظام الحاكم، ممّا حوّل شيئا فشيئا هذه الأُطُر إلى نوع من البُنى المُطْلَقِيَّة الّتي يتعامل انسجاما مع أسسها صراحة أو ضمنا النّظام ومعارضتُه التقليدية.

 

مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل