موريتانيا وغامبيا.. الحقائق والمصالح

أربعاء, 2017-01-25 22:36

محمد عبد الله ولد لحبيب

بدل الحوار المتشنج الذي دار بشأن الأزمة الغامبية، فرجها الله، على انخراط متزايد للنخبة الوطنية في الشأن الإفريقي، وهذا جيد جدا باعتبار موقع موريتانيا المميز، كما يشير إلى حيوية المسألة الديمقراطية في هموم النخبة، وهذا جيد جدا أيضا، نظرا لمحورية الديمقراطية في بناء الدولة المعاصرة، ومحوريتها في مسار التنمية، والتوزيع العادل للثروة والسلطة.

 

ولا يحتاج المرء إلى كبير ذكاء ليشاهد تحول الأزمة الغامبية إلى أزمة وطنية؛ كأن تيار السلطة، والقريبين منها، وبعض المستقلين، مع موقف الرئيس الغامبي المنتهية ولايته؟ وانحاز  نشطاء المعارضة إلى خط الرئيس الفائز في الانتخابات، وهذا أمر له أسباب أموضوعية، وأخرى وجدانية.

 

ما ليس مناسبا برأيي هو اعتبار أي رفض لبقاء يحيى جامي في السلطة دعاية ضد المبادرة التي أطلقها الرئيس محمد ولد عبد العزيز، والبون شاسع بين الاثنين؛ فرفض يحيى جامي ينطلق من موقف مبدئي من الديمقراطية، ونقد المبادرة الموريتانية قضية رأي سياسي نسبي جدا.

 

والأكثر سوءً عندي هو الخلط بين بقاء يحيى جامي في السلطة، والمصالح الموريتانية في غامبيا. هذا الخلط غباء في السياسة، ومقدمة لتبرير ضرب هذه المصالح في حال زوال حكم جامي؛ والأوْلى من وجهة النظر  البراغماتية المحضة هو محاولة إيجاد طريق للتفاهم مع الرئيس المنتخب، وضمان استمرار العلاقة به، وإقناعه بأن موريتانيا خير لغامبيا من السنغال، وأن أطماعها أقل، وليس التشبث بدكتاتور آفل النجم، إذا لم يسقط الآن فهو ساقط غدا، إلا إذا كان نشطاؤنا ينوون محاولة تأبيده على الغامبيين.

 

بعد هذا لدي هذه المحاولة لقراءة المشهد من "الزاوية الوطنية". لموريتانيا مصالح ثابتة في غامبيا، تتعلق بالمآت من المواطنين الذين توجد أعمالهم بغامبي منذ عشرات السنين.

 

ولها مصالح سياسية راجحة تتعلق بوجود يحيى جامي في السلطة، ورغبته في الحفاظ على علاقة دافئة من موريتانيا تحفظ شيئا من توازن القوى بين هذه والسنغال، ويمكن لموريتانيا أن تحتفظ بأداة ضغط (أمنية على الأقل) من خلال النظام الغامبي الموالي لنواكشوط.

 

ولدى السلطات الموريتانية مخاوف من أن الرئيس الجديد سيكون أكثر ولاء لجارتها التي تخوض معها تنافسا صامتا على النفوذ في بعض ملفات المنطقة.

 

لا يخفي النظام السنغالي دعمه المطلق لآدم بارو، وهو أمر متوقع، خصوصا وأن بارو حظي بدعم أغلب القادة الأفارقة، وكل قادة المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، وتسعى السنغال إلى وضع يدها على الخط الأنجلوساكسوني الذي تمثله غامبيا في الأراضي السنغالية، وترفض أقل من الهيمنة الاقتصادي والأمنية، على القرار الغامبي، وقد سعت إلى ذلك بذكاء من خلال تحالفها غير المكتوم مع المعارضة الغامبية الذي توج بنجاح بارو في الانتخابات الرئاسية متم العام الماضي.

 

وهو ما بدا أن النظام الموريتاني لم يحسبه بشكل جيد، وترك الحليف في مواجهة "حلف الأعداء"، وهو ما يحاول الآن تداركه عبر وساطة لن تقدم أكثر من خروج آمن لجامي، أو إقناعه بخوض حرب لا يوجد فيها رابح من بين الدول الثلاث، ولن تكون أفضل مدخل لرعاية مصالح الموريتانيين في غامبيا، ولا مكانة موريتانيا في المنطقة. مهما يكن ما أوصلنا إلى هذه النتيجة؛ عدم دعم جامي في الوقت المناسب، أو عدم النجاح رغم الدعم، فقد فات أوان التدارك؛ إذ كانت المهارة الانقلابية تقتضي عدم اعترافه بنتائج الانتخابات، كما تقتضي الحصافة السياسية الخروج ببطولة القبول بالنتائج المسجل بالصوت والصورة، وعدم محاولة تلفيقية التسعين يوما.

 

كل المبادرات الآن بما فيها مبادرة الرئيس محمد ولد عبد العزيز تقول بترك جامي للسلطة، وأنظمة المنطقة القادمة عبر صناديق الاقتراع، لا تريد كسر مسيرة الديمقراطية في المنطقة والعودة إلى مرحلة الرؤساء الدائمين، أو الاضطرابات المنهكة للاقتصاد، والتنمية الضعيفة أصلا.

 

تملك بلادنا تاريخا، وموقعا، وتنوعا، وإمكانات تمكنها من لعب دور كبير في المنطقة، وليست بحاجة إلى القيام بذلك على قاعدة صراعية مع السنغال، لأن النفوذ الموريتاني في السنغال ذاتها يمكن أن يحولها إلى رافعة للخيارات الموريتانية في المنطقة، بدل أن تكون عائقا في طريقها، وهي تملك من أوراق الإعاقة ما لا يمكن لأجنحتنا معه أن تحلق بعيدا.

 

مصلحة موريتانيا في غامبيا مستقرةٍ، وإقليم قابل للتنمية باحترام القوانين، وحكومات يمكن مساءلتها. هذه هي المصلحة الحقة. أما ما سوى ذلك فهو أدوات بدائية لصراع الأنظمة، وليس للدول فيه ولا للشعوب إلا اللهب.

 

دولة مثل ساحل العاج كانت ملاذا للموريتانيين، في حقبة ما بعد استقلالها، فلما حكمها غباغبو حلت عليهم اللعنة، ولما رجعت إلى الاستقرار والحكم المدني عادت كما كانت وعادت إليها فآم من الموريتانيين وشرعوا في بناء ثروات جديدة، مع أن من يحكمها صديق شخصي لدكتاتور بوركينا فاسو السابق بليز كومباوري وعلاقة الأخيرة  بالنظام الحاكم في موريتانيا معروفة السوء.

 

ليبيا التي قاد الرئيس محمد ولد عبد العزيز وساطة بين فرقائها خسرنا ثوارها ولم نكسب ود حلفاء الأمس من بقايا نظام القذافي، ثم خسرناهم أكثر حين بعنا عبد الله السنوسي بثلاثمائة مليون دولار.

 

كان بإمكان قضية السنوسي أن تعيد العلاقات الليبية الموريتانية إلى سابق عهدها، أو تعيد الود بين موريتانيا وبقايا نظام القذافي، لكنها كانت خسارة مركبة؛ فمن يحكمون ليبيا بعد الثورة غضبوا لأنهم لم يسلموا السنوسي قبل أن يدفعوا مالا، وحلفاء الأمس غضبوا لأن السنوسي سُلِّم إلى خصومه مقابل مبلغ من المال.

 

على صعيد الرأي والتعبير عن الموقف مما يجري في المنطقة لا أعتقد أنه يمكن أن نطالب بالديمقراطية في موريتانيا ثم ننكص عن المطالبة بها في دولة أخرى بدعوى مصلحة متوهمة؛ فهذه ازدواجية ننتقدها في تعاطي الغربيين مع ملفات المنطقة، وتلخصها المقولة السائرة للمرحوم مالك بن نبي: "إن الغربي لا يحمل قيمه خارج وطنه".

 

أظن أن احترام سيادة الدول يبدأ من احترام إرادة شعوبها، وهو ما يعني بالضرورة الوقوف إلى جانب التغيير السلمي في غامبيا، ويتحمل من يطيلون عمر جامي المسؤولية عن أي عنف أو تدخل عسكري للسنغال أو لغيرها، في شؤون الغامبيين.

 

لا أظن أن ثمة من لا يريد لموريتانيا دبلوماسية رائدة في المنطقة بغض النظر عمن يقودها، لكن نقاش تفاصيل مبادرات الدبلوماسية الموريتانية في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، والاختلاف في تقييم نتائجها يظل خلافا في الرأي لا علاقة له بالموقف من الوطن؛ فتلك دعاية ينبغي الترفع عنها.