؟«فرانس 24» تقف في المنتصف و«البي بي سي» تتعظ من ضغط الشارع

سبت, 2014-07-26 12:04

ما زالت توجهات الفضائيات العربية والعالمية والخط التحريري المحدد الأول لعملية تطارحها للأخبار وتناولها للأحداث الكبرى التي تشهدها الكثير من المناطق في العالم. وما زالت هذه المعايير توضع بناء على التوجهات السياسية أساسا، ولا تخضع لقواعد العمل الصحافي القائم على الحياد ونقل الحقيقة دون زيف.
والأكيد أن المتابعين لسلسة الأحداث في الآونة الأخيرة يدرك أن الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل منذ أكثر من أسبوعين تتصدر ملفات الإعلام اليوم. ولكن وبمجرد إلقاء نظرة على نشرات الأخبار أو البرامج التي خصصت لهذا الحدث فإننا نكتشف بوضوح تأرجح هذا الملف من قناة إلى أخرى. حيث تتجه الكثير من المحطات الأوروبية والأمريكية والعربية أيضا إلى تجريم قطاعغزة الذي يلفظ دماء أبنائه يوميا، وتتغاضى عن رعب القذائف والمدافع والدبابات والطائرات التي تدك هذه المنطقة المدنية المكتظة بطريقة عشوائية لا تستثني أحدا.
في حين تقف القليل من الفضائيات موقف المحايد في نقل ما يجري على الأرض من انتهاكات وجرائم الحرب التي تقترف في حق المدنيين والأبرياء دون تمييز. وقد يكون من الصعب إحصاء هذه المحطات، ولكن وبالعودة إلى حجم البعض من القنوات الإخبارية خاصة تستوقفنا قناتا «فرانس 24» الفرنسية الناطقة باللغة العربية و»بي بي سي» اللندنية. هذا الاختيار جاء كمثال لتحليل قراءة هذه المحطات للعدوان الصهيوني على قطاع غزة جاء بسبب قيمتهما وحضورهما في الحقل الإعلامي العالمي وللتضارب الحاصل بينهما في تناول كل طرف لهذا الملف.
والبداية ستكون مع القناة الفرنسية «فرانس 24» التي تعد من أكبر القنوات الإخبارية في العالم ومن بين المحطات الأكثر متابعة من طرف مريدي الأخبار والسياسة. ولسائل أن يسأل كيف تعاملت هذه القناة مع ملف العدواني الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة؟ والإجابة قد تبدو مريبة ومفاجئة مقارنة بالموقف الرسمي للحكومة الفرنسية من ذات الملف. حيث رصدت «فرانس 24» الواقع بشكل متواصل وآني ومباشر وبكامل معايير الحياد اللازمة لنقل حدث بهذا الحجم من الخطورة والتطور المستمر لنسق الأحداث في قطاع غزة. ففي الوقت الذي اتجهت فيه بعض المحطات إلى تسليط الضوء على الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية واصفة إياها بالخطر المحدق بإسرائيل، وتغض الطرف عن الأرواح التي تسقط تباعا على يد آلة الحرب الصهيونية الجبارة. بل وتنقل وتصور ما يحدث في انفجارات وتقتيل في القطاع وتمررها على أنها عمليات في تل أبيب. اعتمدت القناة الفرنسية على الأخبار الحية التي يؤمنها فريق عمل في عين المكان يتابع مسارات العملية الواقعة وينقلها بكل تفاصلها الممكنة. وحتى في حال تعذر الحضور القريب جدا من مسرح الحدث بسبب حدة الانفجارات، فإن المراسل يحاول اختيار فضاء يمكنه من تصوير العمليات ولو عن بعد مرافقا ذلك بوصفه وتحليله لما يجري على الأرض وما تعجز الكاميرا على التقاطه.
كما صور عمليات المقاومة وصواريخها بحجمها الحقيقي دون مبالغة أو انحياز، بل وتم التعبير صراحة عن اختلال موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني. وقد كانت المكالمة الهاتفية التي جرت في سياق نشرات الأخبار مع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أحد الملامح الهامة التي ترجمت عدم انسياق الخط التحريري للقناة وراء دعم جرائم الكيان الصهيوني. ففي سياق المكالمة حاول المتحدث الإسرائيلي التأكيد على أن عملياتهم لا تستهدف غير معاقل قيادات حركة غزة والأنفاق، في الأثناء أجاب المقدم بالكشف عن الصورة البشعة للعمليات التي تجري على الأرض وتستهدف الأطفال خاصة، وذكره بما تم في حي الشجاعية من مجازر وصلت حد تناثر أشلاء القتلى على قارعة الطريق.
وتساءل باستنكار عن أوجه استهدافهم للقيادات السالف ذكرها؟ وقد أدرج هذا الموقف لأنه من جهة يعكس حرفية المقدم وتعامله الحيادي مع المسألة وفقا لما يجري على مسرح الأحداث.
وأمام تعمد الكثير من الإعلاميين التغافل عما يجري واستغلال مثل هذه المكالمات لتوجيه الخبر وفقا لميولهم الذي تفرضه قوى بعيدة عن قطاع الإعلام من جهة أخرى. وهذا الخيار الذي تتخذه قناة «فرانس 24» يأتي وسط تأييد الحكومة الفرنسية لإسرائيل وإقدامها على تفريق متظاهرين مناصرين لأهالي غزة في باريس بذريعة تهديد الأمن العام. وما انجر عنه مواجهات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين أسفرت عن اعتقال أكثر من ستة وثلاثين من المناصرين لغزة وإصابة سبعة عشر عنصرا من الدرك الأمني.
وهذه الخطوة طرحت جدلا واسعا داخل وخارج فرنسا كبلد مصدر لمبادئ حقوق الإنسان ويسقط في هذا المنزلق الذي وضع حكومة هولاند في خندق اتهام شعبه قبل غيره.

حكاية «بي بي سي» مع الشارع

وعلى الضفة الأخرى من هذا المشهد نجد قناة «بي بي سي» اللندنية هذا الصرح الإعلامي الكبير والضارب في القدم والانتشار يأخذ موقفا من الملف السالف ذكره لا يليق بتاريخها وسمعتها. حيث انساقت في رأيي وراء الموقف البريطاني من القضية الفلسطينية المعروف بدعمها للجانب الإسرائيلي، وتبنته واعتمدته في تغطيتها الإعلامية للعدوان الصهيوني المستمر على المدنيين في قطاع غزة. وضربت عرض الحائط أصول العمل الميداني الذي لا تكتفي بالعمل به بل وتشرف على تلقينه في دوراتها التدريبية التي تنظمها للصحافيين في أصقاع مختلفة من العالم. صورة محفوفة بالتناقضات وقعت فيها وميزت نسق عملها ومواكبتها حتى أخر الأسبوع الثاني من الحرب على غزة.
وأضع هذا الحد الزمني ليس لاعتبار توقفها عن مواصلة التغطية، ولكن لأن السحر انقلب على الساحر. حيث تميزت التغطية الإعلامية لهذه القناة طيلة الفترة السالف ذكرها برصد تحركات المقاومة وما تطلقه من صواريخ – لا تجوز المقارنة بينها وبين العتاد الإسرائيلي ـ ونقل القليل مما يجري على الساحة في القطاع كي تمرر صورة للعالم تتكافأ فيها موازين القوى بين الطرفين. وهذا المضمون ميز خاصة نشرات الأخبار وبعض الفقرات الأخرى حتى خيل للمتابعين أن الجانب الإسرائيلي هو الطرف الأضعف في الأحداث وفي خندق الدفاع عن النفس.
وهذا النهج المزيف في نقل الأخبار الذي اتخذته «بي بي سي» لمدة قاربت الأسبوعين لم ينطل على أحد أمام نسق العدوان المتصاعد. وقد كان البريطانيون أول من انتبه إلى هذه اللعبة التي أفقدت القناة جانبا من مصداقيتها وكشفت عن الوجه العاتم لسياسة القناة في ما يتعلق بالشرق الاوسط التي تصنف كأحد أبرز المحطات الإخبارية في العالم.
وتمت ترجمة هذا الانتباه إلى نزول البريطانيين في ظاهرة حضارية رائعة إلى الشارع وتنظيمهم مظاهرات حاشدة تندد بسياسة الصمت القاتل البريطانية والاوروبية وبالقناة ومطالبتها بالتزام الحياد ونقل حقيقة العدوان الذي تشنه إسرائيل.
هذه التحركات أربكت المحطة وأجبرتها على النزول عند مطالبهم والاقتراب من الحقيقة. وبقدرة قادر تحول مسار الأحداث وتغيرت الصورة من مشهد لخصمين متكافئي القوى إلى قوة عسكرية باطشة تسحق المئات من المدنيين بطريقة عشوائية.
وانتقل مسرح القصف والقتل من تل أبيب إلى قطاع غزة. بل وفتح المجال للحديث عن معاناة الفلسطينيين بالقطاع في البرامج واستضافة متحدثين منفلسطين دون توجيه للحديث أو إدراج أطراف عن الكيان الصهيوني لتكذيب ما يمرر من معلومات على لسان الضيوف السالف ذكرهم.
هذا التحول الذي جاء نتيجة لضغوط الشارع البريطاني جعل القناة تستدرك ما بدر منها، ولكن هذا الموقف على ايجابيته (بين قوسين)، إلا أنه قد يكون أحد الأسباب التي ستنفض الغبار عن حجم التناقض الذي يميز القنوات الكبرى في معالجتها للملفات السياسية الكبرى.
كما تفتح المجال للتساؤل كيف يمكن لمحطات تليفزيونية عالمية بحجم «بي بي سي» أن تنساق وراء إملاءات سياسية صارخة؟ وكيف خيل إليها أنها ستنجح في طمس حقيقة ما يجري في وقت تتسابق محطات أخرى قديمة وحديثة من أجل تصوير مجريات الأنباء بأكبر قدر ممكن من الحرفية والمصداقية؟ وكيف لم تخش من انتفاض جمهورها والإساءة للمصداقية التي يأملها متابعوها؟ هي أسئلة قد تثار باستغراب فقط لأن الجهة المعنية تعد رافدا من روافد الإعلام العالمية، ولكنها قد تبدو حديثا عرضيا إذا ما انتبهنا إلى كون هذه القناة تابعة لأحد أكثر الحكومات دعما للكيان الصهيوني على مدار تاريخ القضية الفلسطينية. ويبقى الأمر مريبا جدا ويبعث على الاستياء بالنسبة لبعض المحطات العربية التي تفوق الغربية والاسرائيلية سما والتي تتبنى ذات المنهج، بل وتعمل على تأليب الرأي العام ضد الفلسطينيين!

إعلامية من تونس

فاطمة البدري