البنك المركزي الموريتاني.. النشأة والماضي والحاضر

اثنين, 2020-09-14 17:02

من الغريب وجود تشابه بين بناء الدولة الموريتانية وتأسيس البنك المركزي. فلا أحد كان يفكر في أن يراهن بخُمس أوقية على استمرار وجود الدولة الموريتانية ولا على نجاة البنك المركزي.

عندما باشر الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله بناء الدولة الموريتانية، في غياب أي هياكل قاعدية، اعتبر كثيرون أنه كمن يريد اصطياد السمك في الصحراء. لكنه لم يلتفت إلى أقوال المثبطين ولم ينصع للانهزاميين فا ستطاع أن ينشئ، من لا شيء، دولة لعبت دورا كبيرا في التقارب بين جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية .

وعلى هديه سار أحمد ولد داداه حين أسس البنك المركزي الموريتاني، في وقت كانت فيه كل الدلائل تشير إلى أن البلد لا يملك وسائل تحقيق طموحاته تلك. فكم من الناس اعتبروا هذا المشروع طوباويا ومحكوما عليه بالفشل، وتنبأ آخرون بأنه سيولد ميتا. ولكن أحمد كان يعتبر إنشاء البنك المركزي لضمان الاستقلال النقدي ضرورة ملحة لا يمكن تأجيلها.

لقد كان واعيا بالصعوبات التي ستعترض سبيله ولكنه كان مقتنعا بالقدرة على تجاوزها، فتوكل على الله وباشر العمل وكأنه قد تحصن من المصير الذي عرفه البنكان المركزيان في غينيا ومالي اللذان أسسا قبل ذلك بسنوات، لكن الدولة المستعمرة خنقت الدولتين اقتصاديا لإرغامهما على الرجوع إلى منطقة الفرنك.

كما كان أحمد يدرك المستوى الضعيف للنشاط الاقتصادي وغياب التقاليد البنكية ) أقل من 200 حساب بنكي مفتوح بأسماء الموريتانيين(، وكذلك ندرة المصادر وضعف المداخيل والنقص الفادح في القدرات البشرية المكونة في الميدان. ورغم ذلك كله فقد كان النجاح حليفه، وكأنما كان يتبع صوت هاتف من خارج الأرض يقوده إلى النجاح .

وهكذا ولد البنك المركزي في يونيو 1973، وأصبح أحمد ولد داداه أول محافظ له واستمر في منصبه حتى مايو 1978 . وقد تمت الاستعانة في البداية بخبراء عرب بعدد محدود ولمدد قصيرة، سلموا المهام إلى الموظفين الموريتانيين الذين نهضوا بالعمل باقتدار وبرهنوا على كفاءتهم العالية.

وقد بسط أحمد على مستوى البنك أسلوب عمل يمتاز بالتنظيم الصارم والانضباط مما شكل قطيعة مع الممارسات السائدة في الإدارة المركزية. لقد زرع في الموظفين روح الإخلاص في العمل والتضحية واعتبار الصالح العام فوق كل اعتبار وكذلك العمل الجماعي والتضامن المهني، وكان كل موظف يعي أنه سيحاسب بكل موضوعية حسب مردوده وقيمته العلمية وتجربته.

وبهذا أصبح البنك المركزي مشتلة للإطارات العالية الكفاءة، تجد فيها رئاسة الجمهورية خبرات تستجيب للمواصفات التي تطلبها.

وفي منتصف الثمانينيات بدأ التراخي ينخر التنظيم الذي وضع عند تأسيس البنك. فوقع التسامح مع عدم الانضباط، ولم يعد الالتزام بأوقات العمل صارما، فكثر التغيب ولم يعد يعاقب عليه.

وأصبح بعض الموظفين يذهب إلى زملائه في مكاتبهم للحديث في أمور لا عالقة لها بالعمل تاركين الحُرفاء ينتظرون وقتا طويلا، وظهرت الزبونية. وأصبحتالتعيينات والتقدم الوظيفي لا يتم طبقا للشروط الموضوعية كما كان من قبل.

ولم يعد نظام الترقيات يستجيب للمعايير الموضوعية التي كانت متبعة، إذ أصبح النشاط في الحزب الحاكم  المعيار المعتبر للحصول على الدرجات الوظيفية والترقيات، بدل الكفاءة والإخلاص للبنك.

وهكذا أصبحت روح التضحية ومراعاة الصالح العام قبل كل شيء جزءا من الماضي. ولم تعد الإطارات العليا متحمسة لتحسين مستواها وتحيين معارفها لتبرز بما تنجزه من تقارير فنية أو بقدراتها على التصور. وتسارعت خطوات نذر فقدان البنك المركزي دور القاطرة.

وعين على رأس البنك محافظون ليسوا من الأوساط الاقتصادية أو المالية. ومهما كانت مؤهلاتهم التي لا شك فيها فإن عدم امتلاكهم التجربة وتعقيد عمل البنك شكلا عراقيل لهم.

وبالنسبة إلى بعضهم فما كادوا يستأنسون بأسلوب التصرف حتى يدعون إلى مهام أخرى، فندر أن يستكمل محافظ مدة ولايته المحددة في النظام.

واليوم نلاحظ برضا واعتزاز، وبعد ثلاثين عاما، أن محافظ البنك ونائبه ينتسبون إلى المالك الوظيفي للبنك. فعسى أن يكون هذا عودة لا رجعة فيها للإنصاف الذي سيمكن البنك من استرجاع أساليب العمل التي كانت سائدة من قبل والتي مكنته من أن يكون مؤسسة مثالية.