سيراً على الأحلام… يحتفي بمرارة الألم الإنساني: يُسقط الآيديولوجيا من فلسطين إلى سوريا

أحد, 2014-09-28 11:53

كلامٌ كثير يُقال، حتى لتخال أنّه لم يعد ممكناً أو مُجديّاً إضافة قول. فالمأساة الإنسانيّة أكبر والوقائع أشدّ تعقيداً منذ ثلاثة أعوام وحتى اليوم. لكنّ في العمق، لم يزل كثيرٌ من السوريين يرفضون النظر إلى الكُردي السوري إلاّ باعتباره سوريّاً كُردياً، وإلى الفلسطيني السوري باعتبارهسورياً فلسطينياً. إلاّ أنّ العجز كان دوماً أقسى. اليوم من الصعب لهذه الفئة القليلة من السوريين (على كثرتهم) أن تقول أنّ للمظلوم من أبناء المخيم الذي تهدّم أنّه مُخيمنا كذلك يا «خيّا»، إذ سيبقى قائماً أنّه تهجير الفلسطيني الثاني، وتهجيّر السوري الأوّل. أو أن يُخاطب الكُردي الذي حُرِمَ ككردي من حقوقه الإنسانية والأساسيّة في المواطنة أنّ نظيره السوري لم يكن دوماً أفضل حالاً. 
في كتابه الشعري «سيراً على الأقدام» يُعلي «رامي العاشق» الصوت، مُتحدّثاً ومُهدياً ديوانه هذا إلى (أكثر من ثلاثمائة ألف شهيد سوري في سبيل الحريّة والكرامة، إلى كل شهيد لم نعرف اسمه، وإلى كل الأبرياء الذين رحلوا بلا ذنوب. وإلى مئات آلاف معتقلي الرأي في سجون النظام السوري، وآخرين في سجون الظلام التكفيريّ وتنظيم القاعدة. إلى المُحاصرين في مخيم اليرموك البطل.. إلى المعتقلين في «سايبر ستي» على الحدود السورية- الأردنية منذ سنتين فقط لأنهم فلسطينيون. إلى كلّ من مرّ يوماً فوق تراب سوريا وظلّ ينتمي لها) .
في إهداء العاشق تسقط التقسيمات الآيديولوجية التي ملأتنا بالمرارة وخيبات الأمل، حتى لم تعد تجد فصيلاً سياسياً مُعارضاً يُطالب بالحريّة لمن يرى أنّهم معتقلوا الفصيل المعارض الآخر- والمُعارض له بحسب رؤيته. 
في إهداء العاشق إشارة إلى كل من رحل دون ذنب، فهل نستطيع الحُلم باليوم الذي يقرأ فيه كلمات العاشق مواطنٌ سوري فقد عزيزاً وآمالاً دون أن يرى أعداءً له فيمن أهدى العاشق قصائده الاثنين والعشرين لهم، وبأنّ الفَقدَ الذي فرّق بين الأخ وأخيه ربما يوحدهم… فاللفقدٍ أثرٌّ لا يُمحى، وحده يبقى طويلاً، وأبداً بعد صمت الرصاص. 
عن دار «الأيام» الأردنية، أصدّر العاشق في بداية العام ديوانه. أسماء كثيرة حملها الكتاب لمن غاب ولمن لم نزل في انتظار عودتهم، من رزان زيتونة ومشعل تمو، إلى مازن درويش. من عبد العزيز الخيّر إلى خليل معتوق، وزكي كورديللو، وأليس مفرج وأنس الشغري. إلاّ أنّ القصائد حملت إهداءً خاصاً كان في معظمه إلى المخيم وفرسانه الجميلين كأحلام صيف. إلى «أحمد كوسا» و»خالد البكري» المعروف بلقبه «خالد المُخيم»، وإلى أنس عمارة والمُفكّر الفلسطيني سلامة كيلة. 
إلى خالد كتب العاشق: 
(هذا انينكَ في السجون/ تودّع الروح التي أطلقتَها وتودّعك../ هذا أنينكَ مذ بدأتَ الثورتين/ ومذ ختمتَ الثورتين/ ومذ حميت الموطنين/ وكنتَ شعبين ابتداءً من مُخيمك المُسجّل منذ يوم ولادتك../ يا خالد الوجع انتهاءَ من مُخيمك المُيتّم مذ رحلت/ فلست رقماً كي يودعك المخيم هكذا..
نمْ خالداً../ قُم خالداً../ قم أعطنا ما شئتَ منك../ وخذ حناجرنا، ملامحنا.. وخذنا كيف شئت، وعُدْ سريعاً.. أبيضاً..
عُدْ خالداً).
إلى اللاجئ، الشهيد والشهيدة، المعتقل، الخالدية، إلى أمّ الشهيد، كما إلى دمشق الحزينة، يكتب العاشق قصائده بلغة تنزُّ ألماً لمن يعرف الجرح النازف واختبر طعمهُ المُر. يختار العاشق مفردات مفتوحة للقراءة المُتعدّدة السياقات والانزياحات، يموضعها في كثافةٍ تنوس بالقصيدة من راهنيتها الزمنية والمكانية إلى فضاءاتٍ أوسع، وأفقٍ أبعد. أكثر القصائد تحكي عمّن رحل. لكنها تنتهي دوماً بفسحة أمل، وترسم في إيقاعها إصراراً لا يمكن أن يغيب عن قارئ يعرف كنه الهويّة الفلسطينية. هو صبرُ الفلسطيني، هو إيقاعه الهادئ، هو تمسّكهُ بالحلم والأمل.
هذا الإيقاع الرصين ممزوجاً بالصور الشعرية والتراكيب التي يبنيها العاشق تهبُّ للقصيدة مسحةً سحريّة، وكأنك تقرأ حكاية خرافية، عن أبطالٍ يولودون مع كلّ قراءة، بكل ما فيهم من فردانيّة إنسانيّة. من «محمود درويش» نجد لمحاتٍ بسيطة، ومن «رياض صالح الحسين» الشاعر السوري الذي أغتاله الموتُ باكراً بخطأ طُبي، يستعير العاشق مفردات اليوم الحاضرة، ففي قصيدة (عبور) المُهداة إلى «دمشق»:
(قال «اعبروا»../ فدمشق عاصمة الرماد الحُرّ في أرض الرياح،/ دمشق عشوائيّة التسريح/ لا «مكياج» يُعينها بحفلتها المُقامة في دمي../ قالَ: اعبروا.. / عبرتْ قذيفة حربنا، من عارنا، من نارنا، من ملح أضلَعِنا المُهشّمة انفجاراً نحو غرفة نومنا.. ثمّ استراحت في ملامحنا الدماء!).
تنتهي الصفحات المئة والخمسون تقريباً، من القطع الوسط، وغصّة دمعٍ تخنق القارئ. فالمسحة السحريّة التي يُقيمها العاشق، حكايات الغياب، التقسيم كعزفِ كمنجة وحيدة بين المخيّم ودمشق ومخيمات اللجوء وحتى القبر مرقداً والسماءُ مُستقرّاً، كلّ هذا يفتح للغياب أبواباً ونوافذ يتسلّل منها، فتأخذ صورة الشهيد ملامح السوريين أينما كانوا، قاتلاً وقتيلاً، فجميعهم قبل ارتداء الرصاص سوراً كانوا أحلاماً وغدوا أثراً. هي الكلمات، هي الذاكرة، هي سوريا تحفظُّ الأثر، وتعدّ الأيام في انتظار زهر بريّ ينبتُ من كل الأحلام المُخبأة في امتداد تراب البلد.
(سأقصُّ بعدكَ قصتي:
- ودّعتُ أرضي،
كالشهيد بآخر الشهقات يفصلهُ الترحال../ زفرَ حنينه/ من قال ظُلماً «لا يحبُّ حياتَهُ»؟ / كُلُّ الحكاية/ أنّ ظرفاً طارئاً ناداهُ كي يُلقي علينا من سماءِ نظرةَ../ ليُعيد ترتيبَ الوجود بما يليق بعودتهِ!).

يارا بدر