ريتشارد رورتي ومشاريع الفلسفة الحديثة

جمعة, 2014-10-31 15:43

يثير الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي (1931-2007) أسئلة متعددة مرتبطة بالفلسفة الحديثة، وبإشكال العدالة والمساواة ارتباطا بالفلسفة التحليلية، أو ما يصطلح عليه بـ»الواقعية الجديدة» أو «البراغماتية المحدثة». واقترابا من الفلسفة السياسية وبالسجال الذي خلقته مختلف التصورات، خاصة منها كتاب «الليبرالية السياسية» و» نظرية العدالة» لجون رولز، وكتاب» بين الطبائعية والدين» ليورغين هابرماز.
ولم يكن ريتشارد رورتي يتوانى في الدفاع عن مقولات فلسفية والاحتفاء بالحداثة العليا الجمالية وبطاقاتها الثورية، مما يقتضي الإنصات للحكايات الصغرى التي يعتبرها جان فرانسوا ليوتار الشكل الجوهري للابتكار الإبداعي. وإصراره على تحليل الحكايات المثيرة للاهتمام، بما تتضمنه من بلاغة صراع وبلاغة ألم نابع من رؤية فرانسوا ليوتار النهائية للعلم والمعرفة. فالعلم ما بعد الحداثي هو بحث عن القلائل في أعقاب التحولات التي غيرت سمات القرن العشرين، وما بعد الحداثي بوصفه التشكك إزاء الميتا- حكايات هو الذي يدعم القدرة على تحمل ما لا يقبل القياس. ومبدؤها لا يكمن في التماثل، بل في الخطاب الهامشي الذي يخص المبتكرين، والفحص الصارم الذي تفرضه ما بعد الحداثة على فكر التنوير مكن فرانسوا ليوتار من الانفلات من النقد اللاذع الذي وجهه له يورغين هابرماز، معتبرا أن صاحب «الوضع ما بعد الحداثي» يحاول التخلص من مشروع الحداثة غير المكتمل وإخفاء إخفاقاتها. البداية التدشينية كانت مع فلسفة الأنوار التي أعلت من سلطة العقل كملكة معرفية تنظم العقل الإنساني (المعرفي والقيمي والاجتماعي)، ومع ظهور الوضعية سيتم التركيز على العقل الأداتي الذي يولي أهمية قصوى للمنهج، أي لطرائق عمله بمعزل عن محتوى النظر الذي قاد الغرب نحو منجزاته التكنولوجية الباهرة. وكان اهتمامه الأساس منصبا على المنفعة الذاتية.
ولعل الإعلاء من الذاتي والبراغماتي هو ما جعل العقل مجرد قوالب صورية أدت إلى خيانة ثورة فلاسفة الأنوار. وإعادة النظر في أدبيات مدرسة فرانكفورت، وتأسيس نظرية نقدية للمعرفة تتجاوز الكانطية والهيجيلية والماركسية، كان من أوليات ريتشارد رورتي صاحب «المعرفة والمصلحة» من أجل عقلانية تواصلية تعيد للفلسفة أهميتها ودورها في الفهم والتفسير والممارسات الأخلاقية والحياة الإنسانية العادلة التي تحتفي بالتعبيرات الجمالية.
وفي الوقت الذي كان يتحدث فيه الكثير من المهوسين بالنهايات (نهاية الأدب، نهاية الفلسفة، نهاية التاريخ…) كان جيل دولوز يتجاوز التصورات التقليدية للفلسفة، ويقدم قراءة جديدة مختلفة عن الفهم الكانطي، معتبرا أن الفلسفة هي إبداع المفاهيم. وفي السياق نفسه قدم رورتي مقاربة تتسم بالانزياح عن التصورات الابستمولوجية الصارمة، وتكشف مفهوما مغايرا للفلسفة ولأدوارها.
كشف رورتي عما تتضمنه الثنائيات التقليدية من انزياحات شكلت مثار اهتمام الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا صاحب «الكتابة والاختلاف» خاصة في كتابه «صيدلية أفلاطون» الذي هو في الأصل قراءة تفكيكية لـ»الفيدوس» لأفلاطون الذي زعم أن ما يقوم به هو إعادة تسجيل كلام أستاذه سقراط. غير أن التفجير العنيف لـ»الفيدوس» أفضى إلى اعتبار هذه الثنائيات (الخير/الشر، النور/الظلام، الحقيقة الكذب) أو الفارماكون بتعبير جاك دريدا سما يقتل ويعالج في الوقت نفسه.
وسوف يمضي رائد التفكيكية قدما في رغبته زعزعة أسطورة المعنى الثابت والقدرة على إيجاد إجابات لكل الأسئلة والإشكاليات.
يرتبط الأمر بزحزحة لكثير من الثنائيات التي نعتقد أنها ثابتة ومستقرة، هذا التشكيك هو ما كان يدفع ريتشارد رورتي إلى التأكيد على أهمية النقد في الهموم الفكرية والسياسية والجمالية. مما يتطلب تبعا لهذا السياق المخصوص النظر النقدي لكثير من المرجعيات الفلسفية ذات الحضور الميتافيزيقي القوي والقائمة على مركزية صوتية. ارتباطا بالمرجعيات الفلسفية المشكلة لتصورات ريتشارد رورتي، خاصة ما ارتبط بالرؤية الهيرمينوطيقية لهانز جورج غادمير ووجودية جان بول سارتر ومارتن هيدغر وايمانويل كانط. هذه المرجعيات جعلته ابستمولوجيا يؤشر على استبدادية نظرية المعرفة. ويقدم نفسه كمجدد للفلسفة الأنغلوساكسونية ومدافع عن الحوارية الفلسفية. مع رغبة واضحة في إعادة الاعتبار للفلسفة البراغماتية وتخليصها من الرؤى الهجينة. وهو ما يبرر معارضته الشديدة – في آخر حياته – لسياسة جورج بوش واليمين المتدين، وناقدا لتطور الحزب الديمقراطي لعدم توفره على برامج سياسية حقيقية.
ريتشارد رورتي طالب بإرث الأجداد المؤسسين للديمقراطية الأمريكية أمثال جفرسون، لينكولن، روزفلت، ومارتن لوركينك ليكون بذلك أبا للباراغماتية الأمريكية في شكلها الجديد ووارث جون ديوي. ولم يكن رورتي حينها قد انتهى من دعم وتحيين الأفكار التي يتضمنها عمدة كتبه «الفلسفة والأمل الاجتماعي» (1999). الأمل والتفاؤل حتى بمعزل عن كل أشكال الخداع والنواقص التي لا تجتمع في هروب قوى متضمنة في العدالة. وقد حكى في سن 12 في أحد نصوصه الجميلة المنتمية إلى جنس السيرة الذاتية، عن الهدف من الكائن البشري هو أن يقضي حياته في محاربة اللاعدالة الاجتماعية. وبالتالي فكينونة هذا الكائن لا تتحدد إلا في الانتصار للقيم الإنسانية الرفيعة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ريتشارد رورتي يعيد السؤال الذي طرحه فيلسوف أمريكا الأول رالف والدو في خطابه بالمدرسة الأمريكية سنة 1837: هل هناك مثقف بالمعنى الحقيقي بأمريكا؟ إنه صاحب الفكرة الأمريكية الأصيلة، أو ما سمي بميثاق النهوض مقابل العادات والامتيازات، حرية إعادة إبداع الديمقراطية. وكان من دون شك الفيلسوف الأمريكي الوحيد مع  ستانلي كافاييل الذي عمل على الرد على تصور ايمرسون المثقف العمومي الذي يعبر عن مقدرته على النقاش الداخلي والذي يوضح قوة الخطاب. وهكذا فالمسار غير العادي لريتشارد رورتي بين السياسة والفلسفة الامريكية انصب على الفلسفة التحليلية لهيدغر، ونيتشه، ودريدا، وغادامير.
وإذا كانت نظرية المعرفة باستبداديتها تقصي القول الشعري بما يتمتع به من طاقة فنية وجمالية ، فإن افتقاد الإنسان للإرادة والقدرة على الاختيار هي ما تجعل منه كائنا هشا يسلك طرقا معدة سلفا من قبل أفلاطون، ديكارت، كانط، لذلك
ينبغي اقتداء الهيرمينوطيقا من حيث قدرتها على الخلق والابداع. 
غير أن الهيرمينوطيقا بوصفها نظرية تهتم بقراءة التأويل تتسم بحقولها غير المتناغمة، إذ لا وجود لنظرية عامة في التأويل، وهي منذ شليرماخر، وديلتاي، ومارتن هيدغر، وبول ريكور وهي تعمل على انتقاد منجزاتها، والانفتاح على إشكاليات وتأويلات مختلفة بغية اكتساب بعد فلسفي شمولي. وهو ما سيجعل بول ريكور يتحدث عن «صراع التأويلات» كإحدى أهم سمات الحداثة الغربية.
وريتشارد رورتي، الذي كانت له مساهمات في مجالات متنوعة منها نظرية المعرفة وفلسفة اللغة على نحو ما نجد في كتابه الأثير «الفلسفة ومرآة الطبيعة»
سيركز على الفعل الانساني المختلط في صميميته بالتخييل والتمثل. ورغبة في إدراك الجهد الإنساني من أجل الوجود وفهم الذات عبر فهم رموز الثقافة التي لا تتوثق الذات داخلها. غير أن التعارض بين الفلسفة النسقية والفلسفة المنشئة يوضح أن فكرة الإنسان مرآة للطبيعة تختزل الفعل الإنساني في معرفة الجواهر، والبحث في مواضيع جامدة وإيجاد إجابات وفق قواعد عامة.
هذا التفكيك لما يعتقد أنه من البديهيات جعل ريتشارد رورتي يعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الفلسفة النسقية التي تسير على خطى الأسلاف والشعر بما يتضمنه من حرية وجماليات وقدرة على الانزياح عن الحصون العقلانية عبر التخييل والحلم والدهشة. وقدرة الشعر على رصد تفاصيل حياتية وحميمية عبر لغة تخلق الدهشة تؤشر على تحول الفكر الإنساني المرتبط بالوجود وسعيه إلى تخطي الحدود. والفلسفة المنشئة وهي تنفلت من براثن الفلسفة النسقية والتخصصات الأكاديمية، وتحاول التخلص من المجازات البصرية والمرآوية، والانفتاح على جماليات الشعر وخطابات أخرى كانت ترنو نحو براغماتية تعلي من شأن المحادثة الإنسانية القادرة على الإبداع، وبالتالي فان هدف الفلاسفة الحقيقي هو تتبع هذه المحادثة. ولعل هذه السخرية هي ما جعلته يدخل في سجالات حادة مع عدد من الفلاسفة النسقيين والسياسيين، الذين يفتقدون مشروعا سياسيا يراعي مختلف الأبعاد خاصة البعد الاجتماعي.
ريتشارد رورتي العاشق لأمريكا، وصديق الإنسانية اعتبره كافيل الفيلسوف الأمريكي الأكثر أهمية في أمريكا بعد جون ديوي. وبتركيزه على العمل الاجتماعي والمرجعية البراغماتية كان هذا الفيلسوف يؤكد على وجوب فهم الإنسان، وضرورة ولوج الفكر الإنساني مسارات جديدة لها وجود واقعي في اليومي والاجتماعي. لكنها وهي تنزاح عن القواعد النسقية اللغوية والعقلانية كانت تعلي من الحرية الإنسانية والقدرة على التفكير والحب.

كاتب مغربي

عبد السلام دخان