التدليس الثقافي

أربعاء, 2014-11-05 10:50

من المخاطر التي تتهدد الثقافة العربية المعاصرة، سواء من خلال كتابات بعض الإعلاميين أو الكتاب، ممارسة التدليس الثقافي ضد المثقفين، لأسباب خاصة. وليس التدليس غير اللجوء إلى الكذب، ولي عنق النصوص للوصول إلى إبراز ما يبيته المدلس، من أهواء غير سليمة، ضد من يتصدى لهم لتمرير غاياته ومقاصده غير الأخلاقية. يسود التدليس، عادة، في مراحل الصراع الثقافي ـ السياسي، حين يمارس بطرق غير حضارية، ويكون المبتغى الأساس هو القضاء على الخصم بأي كيفية، ولو بادعاء الكذب والتزوير. فتكال الاتهامات بالعمالة أو الخيانة أو الارتزاق..
كنت أتوهم أن هذه الأساليب التدليسية قد انتهت بانتهاء التباينات الثقافية التي كانت تتأسس على خلفيات سياسية متعارضة في الوطن العربي. ولم يبق أي مبرر لذلك، ولاسيما، أن التجاذب صار الآن بين الإرهابيين وغير الإرهابيين، لولا أن اطلعت على مقالة حديثة في جريدة «الجزيرة» السعودية، كتبها الدكتور بريدة، تحت عنوان «الاتجاه الماركسي في كتابات سعيد يقطين». ولما قرأت المقال وجدته لا يليق بمبتدئ في الدراسة الأدبية، بله السياسية. فهو يرى في كتابي «الأدب والمؤسسة»، دفاعا عن الثورة على الحكام، وذلك ينبئ عن ماركسيتي. وهو لتبريرها، يبين أني اهتممت بالأدب، وناديت بأن يكون له دور في توعية المجتمع لمناهضة الحكام. كما أني اشتغلت بالرواية، و»هي الأكثر شيوعًا في تمثل هذا المذهب الماركسي»… ويتأكد له ذلك من خلال تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي، لأنني درستهما بنيويا و»نصانيا»؟ واخترت روايات «ثورية» ماركسية تتناول الهزيمة؟ إن هذين الكتابين، كما يقول «موضوعهما النقد السردي، أي النقد النصاني وفق المنهج البنيوي، بغية الكشف عن البنية النصية إزاء اختها». وينتهي الى القول بأن «المشروع الماركسي أقرب منه للمشروع السردي الذي يقطين بصدده؟ ذلك لأن العتبات وما بعدها تلح على القارئ الفطن ألا يفهم غير ذلك». وواضح التهافت، وسوء الفهم في كتابات دكتور لا يفرق بين اختيار المتن، ومقاصد التأليف، والماركسي والبنيوي، والسردي. إن دكتورا لا يفرق بين البنيوية والماركسية، لا يعرف معاناة الشكلانيين الروس مع الدولة السوفييتية الاشتراكية؟ هذا مظهر واضح من التدليس الذي لا يتأسس على الكذب، ولكن على الجهل. ذكرني هذا المقال، بمقالين آخرين، وجدتهما بالصدفة في الفضاء الشبكي. يأتي أولهما تحت عنوان: « يعترف: عوامل خارجية تتدخل في نتائج جوائز البوكر». وفي المقال تصريح بما ورد في العنوان. وينتهي المقال، بوضع رابط عن المصدر الذي انتقى منه معلوماته. ولما عدت إليه، وجدت في التغطية الصحافية التي نقل عنها صاحب المقال، ذكر «تدخل عوامل خارجية في نتائج لجان الجوائز»، حيث كنت أتحدث بصفة عامة، ولم اخصص «البوكر». ولقد جاء هذا في سياق حديثي عن ضرورة تحمل مسؤولية لجان الجوائز دورها في إرساء تقاليد موضوعية. وبصدد «البوكر» أكدت في حوارات أجريت معي، أن المنظمين لم يتدخلوا في عمل اللجنة التي كنت فيها نهائيا. فما الذي جعل الصحافي، لا ينقل الكلام كما ورد في التغطية التي تصرف فيها لأهداف خاصة، يريد منها النيل من مصداقية تلك الجائزة؟
أما المثال الثاني، فوجدته في مقالة تتحدث عن الأدب الرقمي، وكانت تحت عنوان: « يعلن موت الكتاب الورقي، ويبشر بالإبداع الرقمي». إن صاحب المقال يدعي قراءة كتابيّ اللذين كرستهما للنص المترابط، والثقافة العربية في علاقتهما بالرقميات. وفي الكتابين معا، وفي مقالات أخرى، وفي عدة حوارات كنت دائما أشدد على أن أي وسيط جديد لا يمكنه أن يلغي القديم، وكنت أنتقد المتحمسين للرقمي، بمغالاة، معتبرا الكتاب الورقي، سيظل موجودا، وأن الرقمي يمكنه أن يخدم الورقي ويجعله متداولا بصورة مختلفة.
نستخلص من هذه الأمثلة أن التدليس ممارسة خطيرة لأنها تنقل إلى المتلقي «ثقافة» تقوم على التضليل والتشويه: في أحد الحوارات، سألتني المحاورة: إنك تنتصر للرقمي على حساب الورقي؟ فعلمت أنها لم تطلع على كتاباتي في الموضوع، وأن مرجعها كان ذلك المقال الذي ظهر لها في مسرد المعطيات المتعلقة بي في أحد محركات البحث، وهي تسعى إلى تكوين فكرة عن الحوار معي من خلال اعتماد ما يقدمه لها الفضاء الشبكي؟
إن النماذج المقدمة، ليست سوى صورة مصغرة عما يحصل للعديد من الكتاب والنقاد والفنانين والمثقفين في طول الوطن العربي وعرضه. ولا يمكن لهذه الظاهرة إلا أن تستفحل ما لم نرتق إلى مستوى عال من الإيمان بالقيم الثقافية الأصيلة. ويتحمل الإعلام الثقافي جزءا من المسؤولية في ذلك. كما أن الكاتب الذي يسعى فقط إلى إرضاء من يهمهم التدليس للإثارة، لا يمكنه أن يتطور في عمله، لأنه سيظل يصطاد أبدا في الماء العكر. إن الحوار الجاد المؤسس على المعرفة الحقيقية، وليس على الجهل، أو عدم التثبت من الأشياء المعروضة، هو الذي يمكنه تأسيس تقاليد ثقافية جديدة تخدم الإنسان العربي، وتطور وعيه. أما التدليس والاختلاق فلن يؤديا إلا إلى إدامة تخلفنا الثقافي والاجتماعي والأخلاقي.

٭ ناقد مغربي

سعيد يقطين