سُلطَة المُثقَّف ومُثقَّف السُّلطَة

جمعة, 2014-11-07 10:58

■ لعلَّ من المُفارقات التي تُحيط بدور المثقف ووظيفته، تنازُلُه، في كثير من الحالات عن سلطته الثقافية والمعرفية، مُقابِل سُلْطَةٍ أخرى، هي السلطة المادية، المُتَمَثِّلَة في سلطة الدولة. فالمثقف، يَنْسَى، أو يتجاهَل، أنَّ الثقافة هي سلطة رمزية، لها تأثيرها الخاصّ، وهي ذات خَطَرٍ، ربما يُضاهي خطر السلطة المادية، ويفوقُها.
ما يكتبه المثقف، وما يقولُه، ليس مجرد تَرَفٍ، أو كلامٍ لا قيمةَ له، فما يُبْدِيه المثقف من رأيٍ وموقفٍ، وما يصدر عنه من نَقْدٍ، هو نتيجة لبحثٍ، وتأمُّلٍ، وتحليلٍ، واستنباطٍ، وليس كلاماً عامّاً، يخلو من حُجَّةٍ، أو من بُرْهانٍ. فالمثقف، في ما يكتبُه، أو يقوله، يصدر عن معرفة بالواقع، ويُحاول أن يكون قريباً من هذا الواقع، أو من المعطيات والوقائع التي قد تكون من أسباب بروز هذه الظاهرة أو تلك. قد يكون في التحليل، أو التَّشخيص، بعض «الخَلل»، لكنه، ليس خلَلاً في معرفة المثقف، بقدر ما قد يكون خللاً في المنهج، أو في طريقة استعمال وتوظيف المفاهيم، وأدوات القراءة والتحليل. وقد تكون الظاهرة موضوع الدراسة أوسع من المنهج ومن المفهوم، أو أنَّ تطبيق المفاهيم كان مُتَعَسِّفاً، ولم يَقْتَرِب من الموضوع، وفق ما تقتضيه القراءة والتحليل، لكن قَصْدَ المثقف، الذي قد يكون، هنا، مُفَكِّراً، أو مشتغلاً بالسوسيولوجيا، أو بالأنتربولوجيا، أو بالتحليل النفسي، أو الأدبي، أي ناقداً، بالمعنى الخاصّ. والدقيق للكلمة، وليس بالمعنى العامّ، المُبْتَذَل، الذي هو نوع من اللِّباس الفضفاض، الواسع، يبقى، دائماً، هو قَصْد معرفي، وليس إخلالاً بدوره ووظيفته، باعتباره الضَّمير الذي يَحْرِص على تشخيص ما يحدُث ويجري، ونقد وتفكيك ما يبدو منه في حاجة للنقد والتفكيك. وهنا تَتبَدَّى سلطة المثقف، الذي يكون دقيقاً، وصارماً في ما يقرأه، وفي ما يَصِل إليه من نتائج وخُلاصات. فليس دور المثقف، كما يقول بيير بورديو «تدبير النِّظام السَّائد»، أو تبرير آليات عَمَل واشتغال هذا النِّظام. فهو موجود خارج هذا النِّظام، وخارِجَ سلطته، بل إنَّه يُراقبُه، يقرأ خطاباته، ويتابِعُها، بنوع من الإنصات والفَحْص الدَّقيقيْن، وبنوع من التشريح، وهو ما يكون، في أغلب الحالات أمراً مُزْعِجاً للسلطة المادية، التي لا تقبل مثل هذا الدَّوْر، التي تعتبر نفسَها هي من يقوم به، ولو بغير أدوات، وآليات السلطة الرمزية، التي ترفض العُنْفَ، وترفض الإكراه، كما ترفض القَهْر، وسَلْب الحُرِّياتِ، وهذا بامتياز، ما تقوم به السلطة المادية، أعني سلطة الدولة، التي، غالباً، ما تستعمل «القانون» أو القضاء، لتبرير كل هذه التَّجاوُزات، وهذه الخُروقات، التي لا تنسجم مع طبيعة ووظيفة السلطة الرمزية، التي هي سلطة المثقف، ووسيلته في التَّعبير والنقد والاحتجاج.
للخِطاب الثقافي عُنْفُه، وهو، في جميع الحالات، عنف رمزي، لكنه لا يرقى للعنف المادي، الذي هو من سمات السلطة المادية، التي كانت عبر التاريخ، سلطةَ قَهْرٍ وإكراه، حتَّى لدى النُّظُم الديمقراطية، التي تَحْتَكِم في «قهرها» للمؤسَّسات، وتلتجيء للقانون، الذي، تعتبره فوق الجميع.
المثقف الذي يتخَلَّى عن السلطة الرمزية، أو يستعملُها لبلوغ السلطة المادية، فهذا مُثقفٌ تبريريٌّ، عاجز عن استعمال الرموز والدَّلالات، أو عن وضعها في سياقها السُّلطوي، البعيد عن العُنْف والإكراه، أو هو شخصٌ، يميل للتَّبرير، بما في ذلك تبرير عُنْف الدولة وقهرها، والدولة بدورها، في اعتمادها على مثل هؤلاء، تحرص على تحريف الرمز، وتشويهه، أو وضعه في خدمة نظامها، أو باعتباره جزءاً من هذا النِّظام، ومن آليات دَوَرانِه، واشتغاله.
فمثقف السلطة، هو مثقف يتنازل عن رأسماله الثقافي، ورأسماله الاجتماعي، أي عن كل سلطاته الرمزية، وعن فكره، ووعيه النقد، ليستبدل النقد بالتبرير، ولِيَصْهَر الرمز في المادَّة، أو يقْهَر الرمزيَّ، بهيمنة الماديّ عليه، وامتصاصه، أو شَلِّه، حتى لا يكون له أي تأثير، أو كما يقول بورديو، دائماً، فإحدى وسائل التخلُّص من الحقائق المزعجة، هي القول إنها غير علمية، أي أنَّها «سياسية» تُحَرِّكُها «المنفعة» و «العاطفة». وهذا، في ذاته، إفراغ للرمزي من رمزيته، وشحنه بالمادي الذي هو سلطة، تعمل باستمرار على قهر سلطة المثقف، وابْتِذَالِها، وليس احتواء المثقفين، ووضعهم رهْن الإشارة، سوى طريقةٍ من الطُّرُق التي تعمل الدولة، من خلالها، على إفراغ الثقافة من «علميتِها». وهذا جوهر ما كان قاله وزير الثقافة المغربي، في حوار له، حاول من خلاله إفراغ النقاش حول استبدال اللغة العربية بالعامية في المدارس المغربية، باعتباره هذا النِّقاش غير «علمي»، رغم وجود علماء، ومثقفين، ومفكرين، وخُبراء، في صُلْبِ هذا النِّقاش، ومعرفتهم، أكثر من وزير الثقافة نفسه، بموضوعهم، الذي هو في صُلْب اختصاصهم، باعتبارهم مثقفين، وأصحاب معرفة، وليسوا تقنيين، أي رجالَ إطفاءٍ.

٭ شاعر تونسي

صــلاح بوســريف