إذا كانَ ربُّ البيتِ بالدفّ ضارباً

خميس, 2014-11-20 19:33

في سياقٍ بلاغيّ دلالته الانتقاص والسخرية والاستهجان الاجتماعي، يستشهدُ العربُ عاميُّهم وخاصيُّهم منذ قرونٍ بقول سبط بن التعاويذي (ت 1187 (: «إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً/ فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ» غير أن أولئك ربما يسهَون عن دلالته الثقافية التي تحيل دلالتَهُ البلاغيةَ على المستشهد نفسه بهذا البيت، من حيث إن في قول ابن التعاويذي موقفاً ضدياً للموسيقى والرقص، وهما لونان مدهشان من ألوان الفنون التي هي جزءٌ من سياق الجماليات في المجتمعات الإنسانية.
ويبدو أن ابن التعاويذي عاش في عصر كان الرقص مبتذلاً فيه اجتماعياً، ولا يمتهنه إلا سفلة المجتمع، أو أن لابن التعاويذي مرجعيته الثقافية المغلقة التي سوّغت له أن يضع ضارب الدف نموذجاً للسقوط الأخلاقي الذي تتمثل صورته في ممارسة أهل البيتِ (كلّهم) الرقصَ، دلالةً على تهافتهم اجتماعياً. ولو أن ابن التعاويذي أدرك أن الرقص ليس شيئاً تافهاً أو هابطاً أو منقصةً أو عاراً لما ضرب بضارب الدف مثلاً شروداً، عابراً أزمنةً عربيةً مختلّةً جمالياً، على الرغم من أن الرقص أو الفن السادس، هو أول وأهمّ الفنون التي رافقت ظهور البشرية، كونه أداة تعبيرية لا تقل في أهميتها عن اللغة، ولا تكاد تخلو أي حضارة من طقوس خاصة للرقص، يتم من خلالها إما استعراض القوة، أو الاحتفال بمناسبة ما، كالنصر مثلاً أو إعلان الحرب، أو لمواجهة قوى الطبيعة وغضبها، أو للتعبير عن مناسبة اجتماعية أو فلسفة خاصة، كما هو معروف في ثقافتي الصين واليابان. (سمر الأشقر: فلسفة الرقص). 
والرقص، بتشبيه الشاعر الفرنسي بول فاليري، هو شِعرُ الجسد كما أن المشي نثرُه، في حين أن من يجيدون الرقص بمهارة عالية هم من الخاصة، إن لم نقل خاصة الخاصة بالمعنى الفني. أما الإيقاع فهو نقطة الارتكاز المحورية في الرقص، وضارب الإيقاع (والدف أحد الآلات الإيقاعية) هو المايسترو الضمني الذي يضبط الزمن واللحن والنقلات الموسيقية، وإن كانت النظرة السائدة إليه تنزله منزلةَ الأقل شأنا بين عازفي الفرقة الموسيقية.
لعل قول التعاويذي: «إذا كان ربُّ البيت بالدف ضارباً …» مما جنَى على الوعي الجماليّ والذائقة الجمالية السائدة، حتى أن محاولة بسيطة للبحث في غوغل عن شيوع الاستشهاد به، في المتداول الثقافي أو التفاعلي في وسائط شبكة الاتصال الاجتماعي، تريكَ كم هو الرقص مستهجنٌ في مجتمعاتنا العربية، من زاويتين: اجتماعية ودينية، وتنعكس كل زاوية على الأخرى انعكاساً مرآوياً، بفاعلية الصورة النمطية للرقص المختزلة في امرأة (مشخلعة) في كابريه أو ملهى ليلي، فإذا الاستهجان يمتد بمتوالية اجتماعية دينية متلازمة متعددة المرايا. لكن المفارقة أن هذا الاستهجان الاجتماعي الديني، القابع في قعر الذات العربية بفاعلية ثقافية طويلة الأمد، يتهافت واقعياً، فالرقص متجذر في المجتمع، وفنونه من علامات التفرد الموصولة بالتراث الحضاري وتجلياته، فناً وإيقاعاً وزيّاً وتعبيراً، وهويةً وثقافةً وتاريخاً، وما يحفُّ بها من مصاحبات فلكلورية عميقة الدلالة. الأمر الذي يشخص حالة اختلالٍ أخلاقية وقيمية، هي جزء من ظاهرةٍ شيزوفرينيةٍ في المجتمع العربي المعاصر، تحول دون تشكيل الشخصية متخففة من ضغط الرياء الاجتماعي المهيمن، ما يؤدي إلى تمزقها نفسياً، وتشوهها فكرياً، بحيث تكون في مهب الاهتزازات وتأثيراتها وفاعلياتها التي تهدد المجتمع، وتؤدي إلى انزلاقه في مهاوٍ سحيقة، من التشدد والتطرف الأيديولوجي حيث التصحر الوجداني من جهة، أو الانغماس في الانفلات المخـــلّ بمنظومة القيم الاجتماعية والثــقافية والسياسية، من جهة أخرى.

٭ كاتب يمني

سعيد الجريري