عربيات في الذاكرة الألمانية

أحد, 2014-11-23 18:12

حين رحلت المبدعات العربيات عن مدينة هانوفر الالمانية، التي حللن بها للمشاركة في فعاليات الدورة الثانية من لقاء «الربيع العربي» المسرحي المنعقد من  6  الى 11 اكتوبر  تحت شعار «نهضة النساء»، خلفن وراءهن صدى ابداعات المرأة العربية المناضلة من اجل قضية الانسان. المرأة العربية الواعية بطروحاتها وتوجهاتها الثقافية والفنية والسياسية، سواء من خلال معرض الصور، للمصرية فرح برقاوي وتنسيق  لينا ياسين، الذي شغل انتباه الزوار لمجمع الثقافة والتواصل  Pavillon او من خلال الامسية التي خصصت لمساءلة العارضة من قبل الجمهور. المعرض، الذي يتحدث من خلال الصورة عن نساء ورجال يساندون انتفاضة المرأة العربية من اجل تحقيق حقها المشروع في تقرير مصيرها ومستقبل ابنائها.
رحلت المبدعات وبقي وراءهن صدى تجاوب انساني وفني ولقاء حضاري بين المبدعات العربيات والمتلقي الالماني، من خلال الورشات الفنية، التي اقترحتها كل من المخرجة المغربية نعيمة زيطان تحت عنوان «المسرح في الوطن» والمخرجة اللبنانية سرين اشقر المقيمة في باريس تحت عنوان «المسرح في المنفى». والفنانة الفلسطينية اسيل ابو وردة تحت عنوان «المسرح بدون وطن». ورشات فتحن من خلالها كوة اطلالة على عالم ند للغرب في الخلق والابداع، وفي الوقت نفسه على هموم المرأة العربية، التي لا زالت تعاني من وصاية المجتمع الابوي في الارياف، مثلما قدمها مسرح الغد القاهري في مسرحية، «ليل الجنوب»، التي تحاور الجنوب المصري، من  خلال احداث تزيح اللثام عن نماذج نسائية يرزحن تحت ثقل العادات والتقاليد، التي يترجمها المهاجر، المثخن بالحنين والجراح، العائد الى الوطن الجنوبي. هنا يصبح الجنوب مسرح  تراجيديات الحب المحظور، ختان البنات القهري، كل وسيلة تبرر غاية الانجاب، والثأر الذي ينشر عباءته فوق الدم والقرابة. الهجرة خارج الوطن وكيف تثخن جروحها النفس والجسد. معاناة انسانية صاغتها الكاتبة فرح الشاذلي في لغة شاعرية تستقي قوتها من الرمز والاشارة وعمادها التراث النوبي والصوفي في الجنوب المصري.
وهو ما فرض على المخرج ناصر عبد المنعم، تحديات نقل هذه اللغة عبر تقسيم الخشبة الى مستويات من الخطاب الادبي وتحريك الشخوص من خلال صدى الزمان والمكان.
رحلت المبدعات العربيات ليخلفن انبهارا بقوة ادائهن فوق الركح كعمات او كأمهات جئن ليعلن صرختهن في وجه الوصاية على علاقة المرأة بذاتها، بكيانها من خلال نموذج مسرحية «ديالي» (ملكي). في قالب من السخرية المرُة، جاءت النساء المغربيات ليتحدثن عن الاجحاف، عن النظرة الدونية في التعامل مع اترابهن، عن الخطوط الحمراء، التي تسيج يوميات وجودهن العادي. فكان الاقتضاب والدقة عناصر لغة المخرجة نعيمة زيطان، وكانت هذه المكابدات، التي تتم فيها ممارسة العنف على الوجود الانثوي كوجود انساني، ككائن بشري يمثل النصف الاخر من المجتمع، من خلال اغتصابها جنسيا وفكريا، وارغامها على التبرؤ من ذاتها، اقصاء وجودها حتى اقصى حدود التدمير النفسي. هذا النشيد الدرامي المرير كان عماده لقاءات حية، حوارات اجرتها المجموعة المسرحية «مسرح الاكواريوم» مع عدد كبير من النساء المغربيات. كان فضاء ركح زيطان فارغا الا من حبل غسيل، نشرت عليه قصائد الحضور النسائي في دفاتير الغياب، ترانيم الولادة، الفرح والحزن.
رحلت المبدعات ولم يرحل الحزن، الذي خلفته الام  في الجمهور الهانوفري في مسار رحلة بحثها الاوديسية عن ابنها الضائع في دوامة سنوات لا تنعم بالالوان. «فيلم ابيض واسود» مسرحية في لغة الهمس تجهر بنضال أم لم تعجز من البحث في المستشفيات والسجون العراقية اثناء الغزو الصدامي للكويت. لكنها حين تعثر في النهاية على الابن المفقود يكون جسدا افرغه التعذيب من محتواه العقلي والنفسي. فهذه التراجيديا العراقية، التي نسج خيوطها الكاتب والمخرج حاتم عودة، قدمها كوثيقة فنية تسجيلية، عن احداث تنتمي الى حياته كضابط في الجيش الصدامي اكثر من نسج الخيال: «لم تكن تلك الحرب حربنا، ولم نكن فيها مدافعين عن الوطن، بل كنا غزاة»، قال مخرج المسرحية حاتم عودة. كان ذلك الاحساس بظلامية هذا الواقع، الذي يقوم حائلا بين الانسان العراقي ورؤية مستقبله المجهول، تكشفها الكاشفات المدثرة بالضباب وغياب الالوان في مسرحية «فيلم ابيض واسود» مثل غيابها من الواقع العراقي. 
رحلت المبدعات كما رحلت الكاتبة والمخرجة والممثلة  التونسية زهيرة بن عمار، لتخلف وراءها «سنديانا»، شجرة البلوط الشامخة المقاومة ضد العواصف وتقلبات واقع يعيش مخاضا ممتدا فوق خريطة الرقعة العربية. خلفت وراءها مسرحية «السنديانا» قصيدة درامية تتحدث عن حرمان المرأة من عشق القمر، عن رقابة استنشاق الهواء، الذي هو حق كل انسان. فهذا التقابل بين السنديانة شجرة البلوط والمرأة، التي تظل قوية ثابتة مهما عصفت الزوابع والرياح. رحلت بن عمار لتخلف من خلال ادائها الحيوي المفعم بالحركة بصمات ذكرى فرجوية نضاحة بالالوان والعواطف الصادقة والتوق الى مواقف رثاء لحضارات ولت، لجنائز اعدت من المحيط الى الخليج واحداث دامية مثل صبرا وشاتيلا في الذاكرة الهانوفرية.
كما خلفت سرين اشقر المخرجة اللبنانية في هذا الملتقى النسائي المسرحي وراءها وداعة قصائد ثرة لليالي شاعرية – مأساوية حملتها مراثي «الايام التي تراقص الليل»، عن رواية كيا مخيلي، الشاعر الكنكولي. ليالي تتذكر فيها الام حدث موت طفلتها على يد زوجها، لانه لا يرى املا في مستقبل ابنتهما الوحيدة البرصاء منذ ولادتها. هذا العمل، الذي يأخذ المتلقي معه عبر اشعار النص الادبي واشعار فنية كتبتها سرين اشقر بمداد صور مشاهد، تمثل ثراء من العطاء المأساوي المدثر في بساطة تعبيرية وانسيابية. انها مسرحية الكلمة المحددة، الثاقبة، الطالعة من القلب والمستقرة في غياهب الوجدان.
حين رحلت سلوى نقارة مثل قريناتها العربيات، تركت خلفها صدى حضورها المتميز الحالم «كبوتشينو في رام الله» عمل مسرحي بقي وشما في ذاكرة المشاهد الالماني، حيث لعبت دور جسر عبر من خلاله المشاهد الى سبر اغوار قضية  الشعب الفلسطيني في كل تجليات نضاله اليومي المتواصل من زاوية مختلفة، فالمرأة الممثلة نقارة تحكي بلغة المرأة الكاتبة سعاد عامري الذاتية «مذكرات شارون وحماتي» في قوة صبرها وتحديها المحتل الاسرائيلي، الرافض منحها حقها في الهوية والحياة. لقد حولت سلوى نقارة عبر تشخيصها، المقتصد في الحركة الدقيق في التعبير فوق مساحة محدودة من الخشبة، الاحداث الى مشاهد حية، مرئية عن الحصار الاسرائيلي عن اشكالية الهوية، عن عناء التنقلات داخل الارض المحتلة، لكن كل هذا بلغة طافحة بالامل بالسخرية بالتطلع الى المستقبل الواعد وبأدوات  شحيحة.
رحلت المبدعات العربيات، ليبقى خلفهن صدى نسائي يصرخ في ختام الملتقى المسرحي لتسقط الوصاية، التي عبرت عنها نساء المسرح الشعبي لمدينة بن غازي. «يسقط شيكسبير» للمخرج محمد الصادق. فهذه الدعوة الى الانسلاخ والثورة على سلبية ادوار المرأة السياسية والاجتماعية في اعمال شكسبير، التي هي دائما الخائنة او المقتولة. في هذه العمل تتحول شخصيات نساء شكسبير الى ثائرات على قدرهن، الذي خططه الكاتب والمخرج منذ البداية. 
قبل وداعهن في حفلة الاختتام قال المشرف على الملتقى النسائي عبد الفتاح الديوري: «سوف ترحلن عنا ايتها المبدعات ويبقى في ذاكرتنا صدى اصراركن على قضية الانسان بشقيها الانثوي والذكوري، بكل ابعادها، الفكرية والانسانية ليتواصل البحث من جديد عبر محطات اخرى واعدة بالحرية وبمعنى الحياة «.
كاتب مغربي

إدريس الجاي