القراءة من الورقي إلى الرقمي واختلاف السؤال

ثلاثاء, 2014-11-25 10:58

القراءة سلوك اجتماعي ـ ثقافي، يؤشر إلى وضعية مجتمع وحضارة، ويرصد سبل النمو الاجتماعي. كلما هيمن هذا السلوك في مجتمع، تحررت الذهنية من ثبات نظام الذاكرة الجماعية، وانفتح المجتمع- أكثر- على إمكانيات التقدم.
بالقراءة ـ وكيفيتها- تحيا الأفكار، وتتخلخل الرتابة، وتقيم شرطا موضوعيا للتفكير. القراءة تنقذ الإنسانية من العبودية التي تنفي السؤال والدهشة والتأمل، وتعيش الوجود زمنا خارج التاريخ. كلما ارتقت المجتمعات البشرية بثقافة القراءة، تجاوزت العبودية وانفتحت أكثر على السؤال. وكلما قرأنا وتواصلنا بالمعرفة، اتسعت رؤيتنا، وأصبح العالم بمواده بين أيدينا، نتصرف فيه موضوعا للتفكير، بدل أن يحولنا إلى موضوعات. عندما نبتعد عن القراءة ونُخاصم المعرفة، يصبح العالم أكبر منا من وعينا، حينها ندخل نفق العبث، ونلجأ إلى سلوكات تنحرف بنا عن المنطق والعقل. تنقذ المعرفة الإنسان من الظلام، لأننا لا نرى العالم بالعين البصرية، إنما بذاكرتنا المقروئية التي تتحول إلى عيون للرؤية. وكلما تنوعت هذه الذاكرة وتشبعت بالثقافات والحقول المعرفية، صارت الرؤية أوضح، وانفتحت ـ أكثر- على الآخر. لذا، يُطرح- باستمرار- سؤال القراءة في كل المناسبات، ومع الأزمات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ولعلنا بذلك، نرصد- بشكل ضمني- مسافتنا عن العبودية، ومدى اقترابنا من الرؤية الواضحة، وفهم الآخر.
كثيرا ما تحدثنا عن سؤال القراءة، سواء في اليوم العالمي للكتاب، أو في غيره من المناسبات، ودائما نربط السؤال بالأزمة. أزمة القراءة. لكن سؤالا يظل بعيدا ـ إلى حد ما- عن الطرح في مستوى القراءة الورقية، أو لا يتم الاهتمام به بالشكل المطلوب، وهو سؤال الكيف.. كيف نقرأ؟ نحن هنا لا نقصد بالقراءة القراءة تحت الطلب من أجل اجتياز امتحان أو مباراة أو ما شابه، إنما نتحدث عن القراءة باعتبارها فعلا اختياريا ومعرفيا، سلوكا إراديا من قبل الذات الواعية بأهمية القراءة من أجل تنمية ذاتها وذاكرتها. ويتم التركيز- في غالب الأحيان- على الشروط التي تسمح بانتعاش سلوك القراءة، وكيفية وصول الكتاب إلى القارئ. ولهذا، يصبح الحديث عن القراءة حديثا عن أسباب الأزمة، ومن ثم، البحث عن سبل تجاوزها. ويظل مفهوم القراءة وكيفيتها والبحث في منهجية تطويرها، حتى تصبح سلوكا تنمويا – ثقافيا، وفعلا إراديا، هو المهيمن على مستوى السؤال. 
لكن مع الوسيط التكنولوجي الذي تحول إلى دعامة للكتابة ومن ثم للقراءة، فإننا نلاحظ تحولا على مستوى سؤال القراءة، من خلال التساؤل حول كيفية قراءة الكتابة الرقمية، بل أكثر من هذا، نلاحظ أن هذا السؤال تقدَم عن سؤال/ ما هي القراءة الرقمية. لماذا التركيز على سؤال الكيف، أكثر من سؤال ماهية القراءة الرقمية؟ قد تعود الأسباب التي تُعجَل بسؤال الكيف في القراءة الرقمية، إلى عوامل مادية خارجية، وأخرى بنيوية ذات علاقة بشكل الكتابة. من جهة قد ترجع إلى علاقة الرقمي بالحياة العامة للأفراد، أكثر من القراءة الورقية المرتبطة بالمؤسسات الرسمية والمدرسة والجامعة والإدارات والبحوث والتقارير وغير ذلك. فالقراءة الرقمية أصبحت واقعا معيشيا، وسلوكا يوميا، وجد الفرد نفسه ممارسا له ـ بمستويات مختلفة، ويتعلمه بسرعة بدون الذهاب إلى المدرسة، ولهذا فالقراءة بمواصفات الرقمي تأخذ طابع مطلب الحاجة، لما لها من علاقة مباشرة بالممارسة اليومية. ومن جهة ثانية تعود إلى عوامل بنيوية ذات علاقة بشكل الكتابة، إذ نشير بداية إلى أن الحديث عن القراءة، يعني الحديث عن الكتابة. نقرأ شيئا مكتوبا.. تحول القراءة يعني تحول نظام الكتابة، وشكل الكتاب. لأن الذي يُحدد طبيعة القراءة هو شكل الكتابة. إن كيفية القراءة متضمنة بشكل الكتابة لهذا، عندما نعلن أننا بصدد قراءة جديدة ومختلفة، فهذا يعني أننا بصدد تحول في شكل الكتابة ونظامها. وشكل الكتابة هو طريقة معينة في قول الذات والعالم، أي الشكل حامل لرؤية للعالم. كيف إذن نقرأ رؤية جديدة للعالم، هل بالأدوات المألوفة، أم علينا أن نجدد أدواتنا؟
إن اختلاف شكل الكتابة بين الرقمي والورقي، يعد محددا أساسيا لشكل القراءة وهدفها. القارئ في الكتابة الورقية يأتي تابعا لتحقق الكتابة نصا. وضع يحدد فعله، إما في إعادة استهلاك ما هو قائم، والذي كرَسته الكتابة الكلاسيكية الأفقية، ذات البعد الخطي، أو العمل على تفكيك ما ها هو قائم، من أجل إعادة تركيبه، ومنحه بناء جديدا، كما وجدنا مع الكتابة ذات النفس البنيوي وما شابه، أو يجد القارئ نفسه في وضع يُحتم عليه المشاركة في بناء النص، من خلال إعادة الكتابة، كما وجدنا مع الكتابة التجريبية، تلك التي تأتي في أغلب مظاهرها، خارج وحدة الموضوع، خاصة في الكتابة السردية، مما يفرض على القارئ إيجاد نظام يوحد شتات الموضوع/الحكاية. 
في كل هذه المستويات، نتحدث عن فعل القراءة باعتباره فعلا لاحقا لشيء قائم، حتى إن تم التصرف فيه، أما مع الكتابة الرقمية، فإن تمظهرها الترابطي يؤسس لشكل مختلف للقارئ، ولفعل القراءة. هناك مفهوم جديد تنتعش به القراءة مع الرقمي، وهو مفهوم الكتابة. تتحقق الكتابة نصا بشراكة تفاعلية ووظيفية مع القارئ. النص غير مُحقق في غياب القارئ بمواصفات الرقمي.. نتيجة للكتابة المعتمدة على تقنية الرابط، التي تجعل النص في حالة تكوَن حسب رقمية القارئ، فإن القراءة الرقمية أضحت أسلوبا في الكتابة، ومن ثم، طريقة في قول الذات والعالم. ومع هذا التحول في مستوى القارئ، تعرف الكتابة تحولا في مفهوم الكاتب والمؤلف والكتابة. حتى تتضح المفارقة بين سؤال القراءة بين الورقي والرقمي، نشير إلى بعض النصوص الرقمية التي يصعب الولوج إليها، إذا لم يُدرك القارئ سؤال الكيف، وليس سؤال «الماهية»، نذكر على سبيل المثال، النص الترابطي «محطات « للكاتب المغربي محمد اشويكة. تعد «محطات» النص الترابطي الثاني للكاتب بعد نص «احتمالات». أول انطباع يعبر عنه القارئ بمجرد فتحه للنص، هو الشعور بالدهشة، لأنه تعود النص حالة محققة استرسالا أمامه، مع بداية ونهاية، تقيد فعل القراءة، ولا تعطيه حق اختيار بداية/نهاية للنص. ما يتراءى أمام قارئ محطات، مجموعة من الوحدات السردية، التي تأتي عبارة عن كلمات، أو جمل قصيرة، موضوعة بطريقة غير مرتبة، تصل إلى 66 وحدة سردية، وكل وحدة تتضمن رابطا ينفتح على نص آخر، يتضمن بدوره رابطا، مما يجعل القراءة تبتعد عن المرجعيات المألوفة (الأفقية والعمودية)، وتغامر في اختيار النص الافتراضي لافتتاح النص كله، وتعتمد على تفاعلية القارئ، وقدرته على الاختيار. يعد هذا التجلي للنص أول تحد أمام القارئ، وأول جسر يعبره من ثقافته المألوفة لشكل النص الأدبي، إلى ثقافة مغايرة تحثه على المشاركة في إنتاج النص كتابة. ندخل هنا، مجال التعلم والتدرب على ثقافة هذا الشكل الجديد من الكتابة. قد تتحقق نصية» محطات» إذا ما استثمر القارئ التجربة الجديدة، وتفاعل معها، وانتقل بحافز من الممارسة التفاعلية – إلى قارئ/كاتب، أما إذا بدا للقارئ صعوبة التفاعل، وعدم القدرة على التخلي عن ثقافة الذوق المألوفة، وعدم الرغبة في التعلم/التدرب، فإن «محطات» وغيرها من النصوص الرقمية، ستظل في غياب نصيتها حالة قابلة للتحقق. إن التساؤل حول سؤال الاختلاف بين القراءة الورقية والرقمية، يسمح بتطوير سؤال القراءة بشكل عام، في إطار العلاقة مع دور القراءة في تحصين المجتمعات من العبث الوجودي.
* كاتبة من المغرب

زهور كرام