البحث في تاريخ مدرسة «عشيروت» العثمانية حكاية العقال البدوي مع الأفندي التركي في إسطنبول القرن

أحد, 2014-12-07 16:29

أصدر السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) فرماناً بافتتاح مدرسة جديدة في إسطنبول في تشرين الأول/اكتوبر عام 1892 بهدف تقديم خدمة التعليم العثماني لأبناء كبار وجهاء العشائر. وعلى الفور فسرت هذه الخطوة كجزء من السياسة الواسعة التي انتهجها السلطان عبد الحميد لدمج الولايات العربية وجعلها أكثر قرباً للسياسة السلطانية المركزية. 
ومع ذلك، فقد تعدى ذلك النظام المدرسي حدود الولايات العربية ليصل إلى مبتغاه في تجنيد الكرد في شرق الأناضول، خاصة أن اهتمام الدولة العثمانية بالرعايا العرب والكرد كان قد بلغ ذروته في تلك الفترة. فالتجربة المتمخضة عن أزمة البلقان ومعاهدة برلين (1875-1878) وخسارة الامبراطورية العثمانية بعضاً من أراضيها وخمس سكانها، أقنعت السلطان عبد الحميد الثاني، على نحو واضح، بمدى التهديد الذي تشكله الحركات الوطنية الانفصالية على ديمومة السلطنة. ولهذا سعت الدولة إلى الحيلولة دون انشقاق المجموعات العرقية من خلال اتباع سياسة فرض الهويات من فوق، ولذلك كانت النزعة الوطنية العثمانية والدعاية الحميدية لرابطة الجامعة الإسلامية، قد مثلت تلك الهوية. ولهذا فقد عدت تجربة مدرسة العشائر بمثابة الأداة التي أخذت على عاتقها تكريس رؤية الدولة في فرض الهويات المتجاوزة للسلطة الوطنية، عبر تمثل فكرة العثمنة الجديدة ما بين المجتمعات المهمشة القاطنة في الولايات العربية والولايات الأناضولية. 
ضمن هذا السياق، يعد كتاب «مدرسة العشائر في إسطنبول ـ دار الوراق ـ 2014 ترجمة نهادي نوري) واحدا من أبرز بحوث الدكتور يوجين روغان، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد، في حقل الدراسات العثمانية المترجمة حديثا للعربية، الذي استمد معلوماته فيه من مصادر أصيلة منوعة، كأرشيف رئاسة الوزراء العثمانية والمصادر التركية الحديثة، فضلا عن الدراسات والبحوث المنوعة كالإنكليزية والتركية والمصادر العربية والتقويمات السنوية (السالنامات)، حيث تندرج فرضية هذا الكتاب في طرح مسألة نشأة «مدرسة العشائر» أو «مكتبي عشيروت» كما يلفظ بالتركية، ومدى قدرة سياسة الدولة العثمانية على تذويب عرى النظام العشائري بهدف خلق مكافئ وظيفي يكون حلقة وصل بين السلطة العثمانية والولايات العثمانية القصية المتميزة بتخلخل العلاقة مع المركز. 
وقد استطاع الكاتب، عبر متابعة متأنية، طرح الملابسات والظروف التي حاقت بنشأة هذه المدرسة وأسلوبها ومنهجها التعليمي، ومدى قدرتها في استقطاب أبناء رؤساء العشائر ودرجة تأثر الأخيرين في المستقبل، حينما تخرجوا ونالوا وظائفهم العسكرية والمدنية على حد سواء، فضلا عن مدى انعكاس ذلك في ولاياتهم الأم، خاصة ممن تخرج من هذه المدرسة مثلا، ولعب دورا مركزيا في الثورة السورية الكبرى ( 1925) رمضان شلاش من دير الزور، وعلي الأطرش من السويداء، وغيرهما من الأسماء ذات الخلفية العشائرية، الذين كانوا بحسب رؤية المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس في رسالته للدكتوراه الحاصل عليها من جامعة شيكاغو عام 2007، التي ترجمت العام الفائت للعربية بعنوان «الثورة السورية الوطنية وتنامي القومية العربية»، قد عبروا في مرحلة الاحتلال الفرنسي لسوريا عن تحرك مجتمعي لتأسيس «هوية متخيلة» جديدة، بقيادة مجموعة من القوى الريفية والمدنية الشعبية (مكتب عنبر) بحيث باتت تمثل ظهور طبقة اجتماعية جديدة، كانت قد رعتها التربية العسكرية وبعض المتغيرات التجارية، في مقابل تمثلات نخب المدن التقليدية لهويتها، التي بقيت أسيرة لمصالحها الضيقة، ونسقها السياسي التقليدي المعروف بـ»سياسة الأعيان»، خاصة أن الشعوب بحسب تعبير بندكت أندرسن في كتابه «الجماعات المتخيلة» غالبا ما تشعر بالانتماء إلى مجتمع أكبر لحظة دخولها في صراع ضد عدو مشترك جديد، الأمر الذي ساهم في الحالة السورية بعيد الاحتلال الفرنسي لسوريا في خلق مفاهيم شعبية جديدة لهوية أولادها.

العشائر بعيون النخب العثمانية

يسعى يورغين في بداية دراسته، إلى تسليط الضوء على المواقف السلبية التي اتسمت بها ذهنية النخب السياسية العثمانية تجاه العشائر العربية. 
فقد درج موظفو العاصمة العثمانية والولايات، على استخدم أوصاف الذم والاستخفاف بحق القبائل، بحيث نظروا تجاههم بأنهم «غارقون في الجهالة»، وذوو «سلوك همجي وغير متحضر». 
وبرزت الألفاظ التي تنم عن الانتقادات الثقافية مثل لفظة «جهل» التي عكست الإشارة الضمنية المحددة بالعيوب المصاحبة لأداء الشعائر الدينية، ولفظة «وحشي» للإشارة إلى تدني التطور الحضري لدى المجتمعات البدوية. وعكس كلا الانتقادين الأولويات المتبعة في ذلك الوقت – بالتشديد على دور السلطان الديني بوصفه خليفة، وعلى الإصلاحات التحديثية التي تبنتها السلطنة.
وكانت مركزة سلطة الدولة من أبرز أهداف هذه الإصلاحات، حيث شكلت القبائل البدوية بحد ذاتها صعوبات جمة أمام مشروع هذه المركزة، اذ لم يقدر للمجتمعات المتنقلة أن تدخل ضمن فلك مطاليب الدولة المتمثلة بدفع الضرائب والخدمة العسكرية، ولذلك فقد عكست الوثائق التاريخية العثمانية برأي – مؤلف الكتاب – نظرة سلبية تجاه القبائل بوصفها خطراً بالغ الفعالية على الرفاه الاقتصادي للسلطنة، نتيجة ثلاثة أسباب أساسية:
□ الأول: انخفاض قدرة المنتجين على دفع الضرائب، إثر الإغارة على المزارعين وسكان البلدات.
□ الثاني: التخوف من الغارات أدى إلى تراجع الإنتاج الاقتصادي نتيجة لتقلص مساحة الأرض المزروعة فضلا عن إعاقة التجارة.
□ الثالث: ارتفاع كلفة دعم قوات حفظ الأمن التي وقف على عاتقها ردع مثل تلك الغارات، بينما كانت هذه القوات ناجحة فقط، على نحو متقطع، تجاه أكثر القبائل ترحالا.
بعد ذلك يتطرق المؤلف، للبدايات الأولى لتأسيس مدرسة «عشيروت» الخاصة بأبناء القبائل، عبر استعانته بالأرشيف المتعلق بالدولة العثمانية في تلك الفترة، حيث تظهر بعض هذه الأوراق توجيهات من قبل السلطان عبد الحميد الثاني لأحد مساعديه المدعو عثمان نوري باشا لوضع مذكرة اقترح فيها إنشاء مدرسة للعشائر قدمت بتاريخ 21 حزيران/يونيو 1892. وفي 6 تموز/يوليو أوكل الصدر الأعظم إلى وزارة المعارف توظيف التحضيرات اللازمة التي من شأنها فتح المدرسة. 
وسرعان ما أرسلت التوجيهات إلى حكام الولايات بهدف تنسيب الطلاب الملائمين، وتم وضع لوائح وخطة عمل كمسودة، مثلما استوجب تعيين المعلمين والكادر المتخصص من الموظفين، فضلا عن إيجاد المكان الملائم وتأثيثه.
وقد اختير قصر مهجور، يعرف بقصر أسما سلطان في مقاطعة كبطاش في إستنبول ليغدو المقر المخصص للمدرسة، كما تم الحصول على خمسة بيوت متجاورة في المقاطعة ذاتها لتغدو سكنا للطلبة.

الحياة اليومية للبدوي الصغير

من جانب آخر، يتطرق يورغين لحالة التناقض التي شهدتها يوميات «البدوي الصغير» مع المعايير العثمانية، عبر إجراء مقارنة أنتربولوجية ذكية بين الصور التي التقطها مصور السلطان المدعو عبد الله فريرس، للطلبة كجزء مما دعي بـ «الصور السلطانية الخاصة» التي قدمها السلطان عبد الحميد هدية إلى المكتبات الوطنية في فرنسا والولايات المتحدة في عامي 1893 و1894، حيث تم التقاط صور للطلبة على نحو زوجي أو فرادى في استوديو التصوير، وقوفا على أرضية نثر عليها قش أمام خلفية لرسم عن الريف، وارتدوا ملابسهم المحلية – المكونة من العباءات مع أغطية الرأس ومجموعة منوعة من القطع والألبسة – ووقفوا على نحو صارم وحدقوا متجهمين بآلة التصوير.
وفي المقابل تماما، تم التقاط صورة لمجموعة من الطلبة أمام مدرستهم مرتدين زيهم المدرسي ذا النمط الاوروبي المعتدل، المكون من المعاطف الطويلة التي تصل لغاية الفخذ مع خمسة أزرار مثبتة بإحكام لغاية الرقبة وتغطي البنطلون المتكون من القماش الداكن ذاته، فضلا عن رمز الأفندي الممثل بالطربوش المنتشر في كل صوب.
وللتأكيد على هذه المشهد من الصراع اليومي على القيم بين الطلبة والإدارة العثمانية، يؤكد المؤرخ، من خلال دراسته للتقارير اليومية الصادرة عن إدارة المدرسة، التي نعثر عليها في أرشيف الدولة العثمانية، أن اولى التحديات التي شغلت بال القائمين على المبنى هو أن يتوافق سلوك الطلبة مع المعايير العثمانية التي نصت عليها سلسلة اللوائح التي وجه الكادر التدريسي للعمل بموجبها حرفيا. ومن أجل تفعيل تلك الخطوة، حاولوا إبقاء الطلاب بعيدين عن المجتمع الإسطنبولي والتأثيرات الفاسدة للمدينة، وكانت هذه الجوانب من حياة الطالب – كالمنهج المتبع، ونوعية الحياة، والانضباط، ذات أهمية بمثابة تجربة تهدف إلى تعزيز الولاء للدولة العثمانية بغض النظر عن الهدف التعليمي.
وربما كان أفضل برهان على ذلك قد تمثل بالأنظمة المتبعة المتعلقة بدفتر ملاحظات الطلبة. إذ تم توجيه المعلمين بضرورة تدقيق دفتر ملاحظات الطلبة على نحو يومي، وإجراء التصحيحات اللازمة، والتأشير على عملهم.
كما اتسمت ظروف المعيشة بالقسوة، فقد كان قصر اسما سلطان رطبا والحرارة غير ملائمة فيه، كما قيد الوصول إلى العالم الخارجي بالنسبة للطلبة على نحو صارم، وإزاء هذه القيود المستحكمة من الثقافة الجديدة، فقد صب طلاب مدرسة العشائر جام غضبهم في التمرد، حيث تناولت التقارير الدورية ما دعي بـ(السلوك المنفلت) في المصادر.
ورغم هذه الصعوبات، يرى المؤلف أن مدرسة العشائر بقيت تعد نموذجا حيا وواضحا لمعرفة حل المعضلة العشائرية الحكومية، التي تمثلت في تلقين قيم الدولة عبر التعليم الرسمي، اذ تمت مواءمة ودمج التعليم بالوظيفة بهدف خلق الرابط الوظيفي بين السلطان العثماني والامبراطورية ومنافسة الولاءات البديلة للعشيرة. وغدت مثل تلك الإنجازات مهمة في سبيل توطيد الحكم العثماني في أكثر الولايات العربية والكردية تهميشا. 
وحتى مع انهيار الامبراطورية قدمت تجربة مدرسة العشائر مثالا مبكرا لتحل الدولة الحديثة «معضلة» عشائرها من خلال زج العنصر البدوي في الجيش والحكومة، وبذلك يشير إلى النتيجة نفسها التي تناولها مايكل برفنس في كتابه السالف ذكره، في أن ما وثقه باتريك سيل من نفور الطبقة الحاكمة في دمشق من الجيش، وبروز ضباط قوميين ريفيين في أواخر أربعينات القرن العشرين نتيجة لنفور النخبة واستقطاب القرويين، تبقى نتائج محدودة وغير دقيقة، لأن جذور هذه المسألة أبعد من ذلك على الصعيد التاريخي، وهو ما يبينه بشكل جلي تاريخ نشأة مدرسة العشائر في إستنبول.
* كاتب وباحث سوري

محمد تركي الربيعو*