العصيان الثقافي

أربعاء, 2014-12-10 13:18

الكتابة معاناة حقيقية لا يعرفها إلا من خبرها حق قدرها. وهي في ذلك مثلها مثل باقي الممارسات الفنية والإبداعية. لكن هذه المعاناة لا تقابل دائما بالترحاب المقبول، أو الاستقبال المحمود الذي يحقق للكاتب مكافأة رمزية أو معنوية، تمكنه من الإحساس بأنه يضطلع بعمل ما تجاه الآخرين، بل إن الأجواء العامة في اتصالها بعوالم الثقافة والفن والكتابة، عادة ما يهيمن فيها، وإن بعنف أشد، ما يسود في مختلف المهن والفعاليات من حساسيات مرضية ومشاحنات عصيبة، تضيق بها النفوس المتوترة، فتسلمها إلى اليأس والقنوط. كما أن العوامل الخارجية، حين تكون مزرية وغير مشجعة، تقود إلى التشكيك في أهمية العمل الفكري وقيمته. فينجم عن كل ذلك ما اسميه بـ»العصيان الثقافي» قياسا إلى العصيان المدني.
ليس هذا العصيان غير العزوف التلقائي والنهائي عن الخوض في أي عمل ثقافي أو الانخراط فيه، قراءة وكتابة وحضورا. إنه الغياب التام، أو التغييب المطلق، للذات الفاعلة التي كانت مساهمة سابقا، عن الاستمرار في أداء أي دور ثقافي، أو المشاركة فيه. إن اعتزال يوسف زيدان نشاطاته الثقافية مؤخرا، وإحجام كتاب آخرين عن الاستمرار في الكتابة (علاء الأسواني، عز الدين شكري، بلال فضل) في مصر سوى نوع من ممارسة هذا «العصيان». وأيا كانت الأسباب، فالنتيجة واحدة. 
إذا كان العصيان المدني تعبيرا عن موقف، وتجسيدا لإرادة ضد ممارسة سياسية أو اجتماعية، فإنه لا يمكن إلا أن يتخذ بعدا جماعيا، وبشكل منظم ومؤطر، لغايات ومقاصد محددة، وينتهي بانتهائها (تجربة الهند الغاندية إبان الاحتلال البريطاني). أما العصيان الثقافي، فلا يمكنه إلا أن يكون فرديا، بناء على قناعة ينتهي إليها صاحبها. وقد يتخذ بعدا جماعيا، وإن بصورة غير منظمة ولا مؤطرة، في لحظات الانحسار الثقافي لمشروع ما، أو التراجع الاجتماعي والأخلاقي، أو حين لا يصبح للأشياء طعمها الذي يحفز على العطاء والإبداع. ولا يمكن ربط ذلك بالفشل الشخصي، لأنه قابل للتجاوز إذا ما أحسن المثقف أو الفنان التعامل معه في لحظة ما، عن طريق الاجتهاد والتطوير والاستمرار. لذلك نعتبر ما نسميه العصيان الثقافي نتاج نظرة تشاؤمية تسود في أوقات معينة، فيتم الكفر بأي ممارسة، ويتولد الحس بلا جدوى الثقافة أو العمل الثقافي. 
إن إقدام كتاب مثل أبي عمرو بن العلاء أو التوحيدي، مثلا على إحراق مكتبة أو مؤلفات، ليس سوى نوع من العصيان الثقافي. ومثله «اعتزال» الفن من لدن بعض المطربين أو المطربات، بسبب التنسك أو الزواج، كما يمكن إدراج بيع أحدهم لمكتبته التي قضى حياته في جمع محتوياتها، إما لعامل صحي، أو إلى رؤية أبنائه منصرفين عنها غير مقدرين لقيمتها، أو توقف بعضهم عن الكتابة، رغم مساهماته الجليلة التي سمحت له بالتميز والألمعية… 
رآني مرة أحد الزملاء أحمل أطروحتين، وهو يعرف أن الإشراف على الرسائل ومناقشتها في جامعتنا بلا مقابل؟ فتعجب من بلاهتي، ولم يزد على أن علق بأن على الإنسان أن يستريح من وجع الرأس، ويعيش حياته. ماذا تستفيد من الإشراف والمناقشة؟ وإذا ما صرف المرء نشاطاته في مشاريع اقتصادية كانت أربح له وأهنأ. لذلك لا عجب أن نجد مثقفين قدامى ينخرطون في مثل هذا النوع من المشاريع. ونجد آخرين، يحيون حياتهم بدون قلق معرفي أو سؤال ثقافي.
إذا كان هذا ديدن بعض المثقفين والفنانين، وهو قائم أبدا في كل الأزمنة والعصور، فلماذا لا يمارس «السياسيون» العرب، هذا العصيان الثقافي؟ إذا اعتبرنا جزءا من ممارستهم متصلا بـ»الثقافة»؟ أو على الأقل يقدمون على «الاستقالة»، وهي مرتبة مختلفة عن العصيان الثقافي، وإن كانت تلتقي معها في «الاعتزال». قد نسمع في الدول المتقدمة، بين الفينة والأخرى، عن تقديم مسؤول سياسي «استقالته»، منهيا بذلك حياته السياسية، لجريرة ارتكبها، أو لمسؤولية تتصل بمنصبه. لكن عندنا، ومهما كانت الفضائح التي يأتيها، أو الجرائم التي يجترحها، نجده متمسكا بـ»الكرسي» الجالس عليه. ومن حسن الحظ، أنه ليس فرعونيا، تدفن معه أشياؤه؟ 
لكن عدم استقالة مثل هؤلاء الذين يسهمون في تكدير الأجواء بممارساتهم اللاإنسانية، وإفسادهم الحياة العامة، بالإضافة إلى كونه أحد عوامل العصيان لدى بعض المثقفين، يؤدي إلى خلق نوع آخر من العصيان لدى عموم الشعب وفئات الشباب، حيث يصبح جماعيا، وإن لم يكن مؤطرا أو منظما. ويتمثل هذا العصيان الذي لا يريد أحد رؤيته، أو التفكير فيه بجدية، هو «العزوف» عن المشاركة في الحياة السياسية، عن طريق الانخراط في الأحزاب أو الجمعيات أو المجتمع المدني. لا يتجلى لنا هذا «العصيان الاجتماعي» فقط في ذلك العزوف، ولكن أيضا في نوعية الانخراط في الاستحقاقات. لذلك يمكننا عد الامتناع عن التصويت، أو التصويت العقابي، نوعا من هذا العصيان. 
لا يتوقف العصيان الثقافي على العزلة النهائية. فقد نجد بعض المثقفين مساهمين، ولكنهم لا ينخرطون في الحياة الثقافية ولا في النقاشات العامة. وأخيرا، إن «عصيان» المثقف ليس سوى تكريس لعدم استقالة السياسي؟
*كاتب مغربي

سعيد يقطين*